الآيات 64-66

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ﴿65﴾ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴿66﴾

القراءة:

قرأ عاصم ﴿إن نعف﴾ و﴿نعذب﴾ فيهما بالنون طائفة بالنصب وقرأ الباقون أن يعف بالياء وضمها وفتح الفاء تعذب بالتاء وضمها طائفة بالرفع.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قرأ ﴿إن نعف﴾ قوله ثم عفونا عنكم ومن قرأ أن يعف فالمعنى معنى نعف وأما تعذب بالتاء فلأن الفعل في اللفظ مسند إلى مؤنث ظاهر.

اللغة:

الحذر إعداد ما ينفي الضرر ورجل حذر متيقظ متحرز ورجل حذريان كثير الحذر شديد الفزع والمنافق الذي يظهر من الإيمان خلاف ما يبطنه من الكفر مشتق من نافقاء اليربوع لأنه يخفي بابا ويظهر بابا ليكون إذا أتي من أحدهما خرج من الآخر والخوض دخول القدم فيما كان مائعا من الماء والطين ثم كثر حتى استعمل في غيره واللعب فعل ما فيه سقوط المنزلة لتعجل اللذة كفعل الصبي ولذلك قالوا ملاعب الأسنة أي أنه لشجاعته يقدم على الأسنة كفعل الصبي الذي لا يفكر في عاقبة أمره والاعتذار إظهار ما يقتضي العذر والإجرام الانقطاع عن الحق إلى الباطل يقال جرم الثمر إذا صرمه وتجرمت السنة تصرمت.

النزول:

قيل نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عند رجوعه من تبوك فأخبر جبريل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم وعمار كان يقود دابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم قال لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم عن ابن كيسان وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) مثله إلا أنه قال ائتمروا بينهم ليقتلوه وقال بعضهم لبعض إن فطن نقول إنا كنا نخوض ونلعب وإن لم يفطن نقتله وقيل إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ذلك فقال احبسوا على الركب فدعاهم فقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب وحلفوا على ذلك فنزلت الآية ﴿ولئن سألتهم ليقولن﴾ (الخ) عن الحسن وقتادة وقيل كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة وكان بين يديه أربعة نفر أو ثلاثة يستهزءؤن ويضحكون واحدهم يضحك ولا يتكلم فنزل جبريل وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فدعا عمار بن ياسر وقال أن هؤلاء يستهزءؤن بي وبالقرآن أخبرني جبرائيل بذلك ولئن سألتهم ليقولن كنا نتحدث بحديث الركب فاتبعهم عمار وقال لهم مم تضحكون قالوا نتحدث بحديث الركب فقال عمار صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله فأقبلوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات عن الكلبي وعلي بن إبراهيم وأبي حمزة وقيل إن رجلا قال في غزوة تبوك ما رأيت أكذب لسانا ولا أجبن عند اللقاء من هؤلاء يعني رسول الله وأصحابه فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق وأراد أن يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فجاء وقد سبقه الوحي فجاء الرجل معتذرا وقال إنما كنا نخوض ونلعب ففيه نزلت الآية عن ابن عمر وزيد بن أسلم ومحمد بن كعب وقيل أن رجلا من المنافقين قال يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فنزلت الآية عن مجاهد وقيل نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه عن الضحاك.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عنهم فقال ﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم﴾ فيه قولان (أحدهما) أنه إخبار بأنهم يخافون أن يفشوا سرائرهم ويحذرون ذلك عن الحسن ومجاهد والجبائي وأكثر المفسرين والمعنى أنه يحذرون من أن ينزل الله عليهم أي على النبي والمؤمنين سورة تخبر عما في قلوبهم من النفاق والشرك وقد قيل إن ذلك الحذر إنما أظهره على وجه الاستهزاء لا على سبيل التصديق لأنهم حين رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينطق في كل شيء عن الوحي قال بعضهم لبعض احذروا ألا ينزل وحي فيكم يتناجون بذلك ويضحكون عن أبي مسلم وقيل أنهم كانوا يخافون أن يكون (عليه السلام) صادقا فينزل عليه الوحي فيفتضحون عن الجبائي وقيل أنهم كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا عن مجاهد (والثاني) إن هذا اللفظ لفظة الخبر ومعناه الأمر فهو كقولك ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تخبرهم بما في قلوبهم من النفاق وحسن ذلك لأن موضع الكلام على التهديد ﴿قل استهزءوا﴾ معناه قل يا محمد لهؤلاء المنافقين استهزءوا أي اطلبوا الهزء وهو وعيد بلفظ الأمر ﴿إن الله مخرج ما تحذرون﴾ أي مظهر ما تحذرون من ظهوره والمعنى أن الله يبين لنبيه باطن حالكم ونفاقكم ﴿ولئن سألتهم﴾ عن طعنهم في الدين واستهزائهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبالمسلمين ﴿ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب﴾ واللام للتأكيد والقسم ومعناه لقالوا كنا نخوض خوض الركب في الطريق لا على طريق الجد ولكن على طريق اللعب واللهو فكان عذرهم أشد من جرمهم ﴿قل﴾ يا محمد ﴿أبالله وآياته﴾ أي حججه وبيناته وكتابه ﴿ورسوله﴾ محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿كنتم تستهزءون﴾ ثم أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يقول لهؤلاء المنافقين ﴿لا تعتذروا﴾ بالمعاذير الكاذبة ﴿قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ أي فإنكم بما فعلتموه قد كفرتم بعد أن كنتم مظهرين الإيمان الذي يحكم لمن أظهره بأنه مؤمن ولا يجوز أن يكونوا مؤمنين على الحقيقة مستحقين للثواب ثم يرتدون على ما تقرر بالدليل وذكر في غير هذا الموضع أن المؤمن لا يجوز أن يكفر ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين﴾ أي كافرين مصرين على النفاق هذا إخبار منه سبحانه أنه إن عفا عن قوم منهم إذا تابوا يعذب طائفة أخرى لم يتوبوا وأقاموا على النفاق والطائفة اسم للجماعة على الحقيقة لأنه اسم لما يطيف بغيره ويحيط به وقد سمي الواحد طائفة على معنى أنها نفس طائفة وقد ورد القرآن بذلك في قوله ﴿وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين﴾ فقد ورد في الآثار عن أئمتنا (عليهم السلام) أن أقل من يحذر عذابهما واحد من المؤمنين فصاعدا وروي أن هاتين الطائفتين كانوا ثلاثة نفر فهذا اثنان وضحك واحد وهو الذي تاب من نفاقه واسمه مخشي بن حمير فعفا الله عنه.