الآيات 31-35

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿31﴾ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿32﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿33﴾ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴿34﴾ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴿35﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو يدخلونها بضم الياء على ما لم يسم فاعله ليشاكل قوله ﴿يحلون﴾ والباقون بفتح الياء لأنهم إذا أدخلوا فقد دخلوا وقد ذكرنا اختلافهم في ﴿لؤلؤا﴾ في سورة الحج.

اللغة:

المقامة الإقامة وموضع الإقامة وإذا فتحت الميم كان بمعنى القيام وموضع القيام قال الشاعر:

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

والنصب التعب وفيه لغتان النصب والنصب لغتان كالرشد والرشد والحزن والحزن واللغوب الإعياء من التعب.

الإعراب:

﴿من الكتاب﴾ في موضع الحال من الضمير المنصوب المحذوف من الصلة والتقدير والذي أوحيناه إليك كائنا من الكتاب ﴿جنات عدن يدخلونها﴾ خبر مبتدإ محذوف ويجوز أن يكون بدلا من قوله ﴿الفضل الكبير﴾ ﴿يدخلونها﴾ في موضع نصب على الحال وكذلك ﴿يحلون فيها من أساور﴾ من يتعلق بيحلون ﴿من ذهب﴾ في موضع الصفة لأساور أي أساور كائنة من ذهب والمعنى ذهبية ﴿لا يمسنا﴾ في موضع نصب على الحال.

المعنى:

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿والذي أوحينا إليك﴾ يا محمد وأنزلناه ﴿من الكتاب﴾ وهو القرآن ﴿هو الحق﴾ أي الصحيح الذي لا يشوبه فساد والصدق الذي لا يمازجه كذب والعقل يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل ﴿مصدقا لما بين يديه﴾ أي لما قبله من الكتب لأنه جاء موافقا لما بشرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به ﴿إن الله بعباده لخبير﴾ أي عالم ﴿بصير﴾ بأحوالهم ﴿ثم أورثنا الكتاب﴾ يعني القرآن وقيل هو التوراة عن أبي مسلم وقيل أراد الكتب لأن الكتاب يطلق ويراد به الجنس عن الجبائي والصحيح الأول لأن ظاهر لفظ الكتاب لا يطلق إلا على القرآن ﴿الذين اصطفينا من عبادنا﴾ أي اخترناهم ومعنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم كما قال وتلك الجنة التي أورثتموها وقيل معناه أورثناهم الإيمان بالكتب السالفة إذ الميراث انتقال الشيء من قوم إلى قوم والأول أصح واختلف في الذين اصطفاهم الله تعالى عن عباده في الآية فقيل هم الأنبياء اختارهم الله برسالته وكتبه عن الجبائي وقيل هم المصطفون الداخلون في قوله إن الله اصطفى آدم إلى قوله وآل إبراهيم وآل عمران يريد بني إسرائيل عن أبي مسلم قال لأن الأنبياء لا يرثون الكتب بل يورث علمهم وقيل هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أورثهم الله كل كتاب أنزله عن ابن عباس وقيل هم علماء أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ورد في الحديث العلماء ورثة الأنبياء والمروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا هي لنا خاصة وإيانا عنى وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء إذ هم المتعبدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه والعارفون بجلائله ودقائقه ﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات﴾ اختلف في أن الضمير في منهم إلى من يعود على قولين (أحدهما) أنه يعود إلى العباد وتقدير الكلام فمن العباد ظالم وروي نحو ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة واختاره المرتضى قدس الله روحه من أصحابنا قال والوجه فيه أنه لما علق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده بين عقيبه أنه إنما علق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأن فيهم من هو ظالم لنفسه ومن هو مقتصد ومن هو سابق بالخيرات (والقول الثاني) أن الضمير يعود إلى المصطفين من العباد عن أكثر المفسرين ثم اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين (أحدهما) إن جميعهم ناج ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في الآية أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ وعن عائشة أنها قالت كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم وأما الظالم فمثلي ومثلكم وروي عنها أيضا أنها قالت السابق الذي أسلم قبل الهجرة والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة والظالم نحن وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وقيل إن الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل منهم ظالم لنفسه بالصغائر ومنهم مقتصد بالطاعات في الدرجة الوسطى ومنهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا عن جعفر بن حرب وروى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) أنه قال الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد منا العارف بحق الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام وهؤلاء كلهم مغفور لهم وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال وأما الظالم لنفسه منا فمن عمل عملا صالحا وآخر سيئا وأما المقتصد فهو المتعبد المجتهد وأما السابق بالخيرات فعلي والحسن والحسين (عليهما السلام) ومن قتل من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيدا والقول الآخر أن الفرقة الظالمة لنفسها غير ناجية قال قتادة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات هم السابقون المقربون من الناس كلهم كما قال سبحانه وكنتم أزواجا ثلاثة وقال عكرمة عن ابن عباس إن الظالم هو المنافق والمقتصد والسابق من جميع الناس وقال الحسن السابقون هم الصحابة والمقتصدون هم التابعون والظالمون هم المنافقون فإن قيل لم قدم الظالم وأخر السابق وإنما يقدم الأفضل فالجواب أنهم يقدمون الأدنى في الذكر على الأفضل قال سبحانه يولج الليل في النهار وقال يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور وقال خلق الموت والحياة وقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقيل إنما قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعلمه وقيل إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاث معصية وغفلة ثم التوبة ثم القربة فإذا عصى فهو ظالم وإذا تاب فهو مقتصد وإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته اتصل بالله وصار من جملة السابقين وقوله ﴿بإذن الله﴾ أي بأمره وتوفيقه ولطفه ﴿ذلك هو الفضل الكبير﴾ معناه أن إيراث الكتاب واصطفاء الله إياهم هو الفضل العظيم من الله عليهم ﴿جنات عدن يدخلونها﴾ هذا تفسير للفضل كأنه قيل ما ذلك الفضل فقال هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات ويجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال ذلك دخول جنات ﴿يحلون فيها من أساور﴾ جمع أسورة وهي جمع سوار ﴿من ذهب ولؤلؤا﴾ ومن قرأ ﴿ولؤلؤا﴾ فالمعنى ويحلون فيها لؤلؤا ﴿ولباسهم فيها حرير﴾ وهو الإبريسم المحض وإذا قلنا إن المراد به الفرق الثالث فالظالم إنما يدخلها بفضل الله تعالى أو بالشفاعة ﴿وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ أخبر سبحانه عن حالهم أنهم إذا دخلوا الجنة يقولون الحمد لله اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف وشكرا له على أن أذهب الغم الذي كانوا عليه مستحقين لذلك فإذا تفضل الله عليهم بإسقاط عقابهم وأدخلهم الجنة حمدوه على ذلك وشكروه ﴿إن ربنا لغفور﴾ لذنوب عباده وقبيح أفعالهم ﴿شكور﴾ يقبل اليسير من محاسن أعمالهم وقيل إن شكره سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له والقيام بطاعته وإن كان حقيقة الشكر لا يجوز عليه سبحانه من حيث كان اعترافا بالنعمة ولا يصح أن يكون سبحانه منعما عليه ﴿الذي أحلنا دار المقامة﴾ أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون عنها ﴿من فضله﴾ أي ذلك بتفضله وكرمه ﴿لا يمسنا فيها نصب﴾ لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة ﴿ولا يمسنا فيها لغوب﴾ أي ولا يصيبنا فيها إعياء ومتعبة في طلب المعاش وغيره.