الآيـة 37

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿37﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر النسيء بالتشديد من غير همزة وقرأ جعفر بن محمد (عليهما السلام) والزهري النسي مخففا في وزن الهدي بغير همز وروي مثل ذلك أيضا عن شبل عن ابن كثير والباقون ﴿النسيء﴾ بالمد والهمز وقرأ ﴿يضل﴾ بضم الياء وفتح الضاد أهل الكوفة غير أبي بكر وقرأ يضل بضم الياء وكسر الضاد أوقية من طريق ابن مقسم عن أبي عمرو ورويس عن يعقوب والباقون يضل بفتح الياء وكسر الضاد.

الحجة:

قال أبو علي النسيء مصدر كالنذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول كما قاله بعض الناس لأنه إن حمل على ذلك كان معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر والمؤخر الشهر وليس الشهر نفسه بزيادة في الكفر وإنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة فأما نفس الشهر فلا وأما ما روي من النسي بالياء فذلك يكون على إبدال الياء من الهمزة ولا أعلمها لغة في التأخير كما أن أرجيت لغة في أرجأت وما روي من النسي بتشديد الياء فعلى تخفيف الهمزة وليس هذا القلب مثل القلب في النسي بالياء لأن النسي بتشديد الياء على وزن فعيل تخفيف قياسي كما أن مقروة في مقرؤة تخفيف قياسي وليس ﴿النسيء﴾ كذلك وذكر ابن جني فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون أراد النسيء ثم خفف بأن أبدلت الهمزة ياء كما قال الشاعر:

أهبي التراب فوقه إهبايا أراد إهباء (والثاني) أن يكون فعلا من نسيت لأن الشيء إذا أخر فكأنه نسي (والثالث) وفي الصيغة أن يكون أراد النسيء على فعيل ثم خفف وأدغم فصار النسي ثم قصر فعيلا بحذف يائه فصار نسي ثم أسكن عين فعل فصار نسي كما قيل في سميح سمح وفي رطيب رطب وفي جديب جدب فأما قوله ﴿يضل﴾ فليس في يضل إشكال ولا في يضل لأن المضل لغيره ضال بفعله إضلال غيره فأما يضل فالمعنى فيه أن كبراءهم وأشرافهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور وقرىء في الشواذ يضل بفتح الياء والضاد وهذه لغة أعني ضللت أضل.

اللغة:

قال أبو زيد نسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك والمصدر النسيء يقال نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نساء إذا أخرتها عنه والمواطاة الموافقة يقال واطأ في الشعر إذا قال بيتين على قافية واحدة وأوطأ مثله.

المعنى:

لما قدم سبحانه ذكر السنة والشهر عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسيء فقال ﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ يعني تأخير الأشهر الحرم عما رتبها الله سبحانه عليه وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يزول التحريم إلى المحرم ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة قال ابن عباس ومعنى قوله ﴿زيادة في الكفر﴾ أنهم كانوا أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله قال الفراء والذي كان يقوم به رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان رئيس الموسم فيقول أنا الذي لا أعاب ولا أخاب ولا يرد لي قضاء فيقولون نعم صدقت أنسئنا شهرا أو أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر وأحل المحرم فيفعل ذلك والذي كان ينساها حين جاء الإسلام جنادة بن عوف بن أمية الكناني قال ابن عباس وأول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف وقال أبو مسلم بن أسلم بل رجل من بني كنانة يقال له القلمس كان يقول إني قد نسأت المحرم العام وهما العام صفران فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما مجرمين قال شاعرهم:

وما ناسىء الشهر القلمس وقال الكميت:

ونحن الناسئون على معد

شهور الحل نجعلها حراما

وقال مجاهد كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة فذلك حين قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وذكر في خطبته إلا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أراد (عليه السلام) الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء ﴿يضل به الذين كفروا﴾ أي يضل بهذا النسيء الذين كفروا ومن قرأ بضم الباء فمعناه يضلون به غيرهم وإضلالهم أنهم فعلوا ذلك ليحللوا للناس الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها وأوجب الحج في بعضها فيستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه وجوزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم ﴿يحلونه عاما ويحرمونه عاما﴾ أي يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا إلى القتال فيه ويجعلون الشهر الحلال حراما ويقولون شهر بشهر وإذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك ﴿ليواطئوا عدة ما حرم الله﴾ معناه أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم ليكون موافقة في العدد وذلك المواطاة ﴿زين لهم سوء أعمالهم﴾ أي زينت لهم أنفسهم أو زين لهم الشيطان سوء أعمالهم عن الحسن وقيل معناه استحسنوا ذلك بهواهم ﴿والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ مر تفسيره.