الآيات 52-55

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿52﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿53﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا مَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿54﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴿55﴾

النزول:

روي عن ابن عباس وغيره أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله أ فرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في تلاوته تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى فسر بذلك المشركون فلما انتهى إلى السجدة سجد المسلمون وسجد أيضا المشركون لما سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم فهذا الخبر أن صح محمول على أنه كان يتلو القرآن فلما بلغ إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يعيبها قال بعض الحاضرين من الكافرين تلك الغرانيق العلى وألقى ذلك في تلاوته توهم أن ذلك من القرآن فأضافه الله سبحانه إلى الشيطان لأنه إنما حصل بإغوائه ووسوسته وهذا أورده المرتضى قدس الله روحه في كتاب التنزيه وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية وهو وجه حسن في تأويله.

المعنى:

﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي﴾ من هنا مزيدة والتقدير ما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا وإنما ذكر اللفظين لاختلاف فائدتهما فالرسول الذي أرسله الله تعالى ولا يحمل عند الإطلاق على غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي الذي له الرفعة والدرجة العظيمة بالإرسال وقيل إن بينهما فرقا فالرسول الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي والنبي الذي يوحى إليه في منامه فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا وقيل بل الرسول هو المبعوث إلى أمة والنبي هو الذي لا يبعث إلى أمة عن قطرب وقيل إن الرسول هو المبتدىء بوضع الشرائع والأحكام والنبي الذي يحفظ شريعة غيره عن الجاحظ والقول هو الأول لأن الله سبحانه خاطب نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بالنبي ومرة بالرسول فقال يا أيها الرسول ويا أيها النبي فالرسول والنبي واحد لأن الرسول يعم الملائكة والبشر والنبي يختص البشر فجمع بينهما هنا وفي قوله وكان رسولا نبيا ﴿إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته﴾ قال المرتضى لا يخلو التمني في الآية من أن يكون معناه التلاوة كما قال حسان بن ثابت:

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

أو يكون تمني القلب فإن كان المراد التلاوة فالمعنى أن من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه حرفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا كما فعلت اليهود وأضاف ذلك إلى الشيطان لأنه يقع بغروره ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان﴾ أي يزيله ويدحضه بظهور حججه وخرج هذا على وجه التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كذب المشركون عليه وأضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها وإن كان المراد تمني القلب فالوجه أن الرسول متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل يدعوه إليه وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وترك استماع غروره قال وأما الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعفة عند أصحاب الحديث وقد تضمنت ما ينزه الرسل (عليهم السلام) عنه وكيف يجوز ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قال الله سبحانه كذلك لنثبت به فؤادك وقال سنقرؤك فلا تنسى وإن حمل ذلك على السهو فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ونظمها ثم لمعنى ما تقدمها من الكلام لأنا نعلم ضرورة أن الساهي لو أنشأ قصيدة لم يجز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها وفي معنى البيت الذي تقدمه وعلى الوجه الذي تقتضيه فائدته ويمكن أن يكون الوجه فيه ما ذكرناه في النزول لأن من المعلوم أنهم كانوا يلقون عند قراءته طلبا لتغليطه ويمكن أن يكون كان هذا في الصلاة لأنهم كانوا يلقون في قراءته وقيل أيضا إنه كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل الحجاج لهم فلما تلا الآيات قال تلك الغرانيق العلى على سبيل الإنكار عليهم وعلى أن الأمر بخلاف ما قالوه وظنوه وليس يمتنع أن يكون هذا في الصلاة لأن الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا وإنما نسخ من بعد وقيل إن المراد بالغرانيق الملائكة وقد جاء ذلك في بعض الحديث فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم وقيل إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم نسخت تلاوته وقال البلخي ويجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما فلما قرأ ألقاها الشيطان في ذكره فكاد أن يجريها على لسانه فعصمه الله ونبهه ونسخ وسواس الشيطان وأحكم آياته بأن قرأها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محكمة سليمة مما أراد الشيطان ويجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما انتهى إلى ذكر اللات والعزى قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته فألقاهما في تلاوته في غمار الناس فظن الجهال أن ذلك من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسجدوا عند ذلك والغرانيق جمع غرنوق وهو الحسن الجميل يقال شاب غرنوق وغرانق إذا كان ممتليا ريا ﴿ثم يحكم الله آياته﴾ أي يبقي آياته ودلائله وأوامره محكمة لا سهو فيها ولا غلط ﴿و الله عليم﴾ بكل شيء ﴿حكيم﴾ واضع للأشياء مواضعها ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم﴾ أي ليجعل ذلك تشديدا في التعبد وامتحانا عن الجبائي والمعنى أنه شدد المحنة والتكليف على الذين في قلوبهم شك وعلى الذين قست قلوبهم من الكفار فتلزمهم الدلالة على الفرق بين ما يحكمه الله وبين ما يلقيه الشيطان ﴿وإن الظالمين لفي شقاق بعيد﴾ أي في معاداة ومخالفة بعيدة عن الحق ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم﴾ بالله وبتوحيده وبحكمته ﴿إنه الحق من ربك﴾ أي إن القرآن حق لا يجوز عليه التبديل والتغيير ﴿فيؤمنوا به﴾ أي فيثبتوا على إيمانهم وقيل يزدادوا إيمانا إلى إيمانهم ﴿فتخبت له قلوبهم﴾ أي تخشع وتتواضع لقوة إيمانهم ﴿وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾ أي طريق واضح لا عوج فيه أي يثبتهم على الدين الحق وقيل يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة ﴿ولا يزال الذين كفروا في مرية منه﴾ أي في شك من القرآن عن ابن جريج وهذا خاص فيمن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون من الكفار ﴿حتى تأتيهم الساعة بغتة﴾ أي فجاة وعلى غفلة ﴿أو يأتيهم عذاب يوم عقيم﴾ قيل إنه عذاب يوم بدر عن قتادة ومجاهد وسماه عقيما لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ومثله قول الشاعر:

عقم النساء فلا يلدن شبيهه

إن النساء بمثله لعقيم

وقيل إنما سمي ذلك اليوم عقيما لأنه لم يكن فيه للكفار خير فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير عن الضحاك واختاره الزجاج وقيل المراد به يوم القيامة والمعنى حتى تأتيهم علامات الساعة أو عذاب يوم القيامة وسماه عقيما لأنه لا ليلة له عن عكرمة والجبائي.

النظم:

اتصلت الآية الأولى بما تقدم من ذكر الكفار وما متعوا به من نعيم الدنيا ولما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مني به أصحابه من الإقتار تمنى لهم الدنيا فبين سبحانه أن ذلك التمني من وساوس الشيطان وأن ما أعده لهم من نعيم الآخرة خير وقيل اتصل بقوله إنما أنا لكم نذير مبين فبين سبحانه أنه بشر وأن حاله كحال الرسل قبله.