الأيـة 286
لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿286﴾
اللغة:
الوسع ما دون الطاقة ويسمى ذلك وسعا بمعنى أنه يسع الإنسان ولا يضيق عنه وأخطأنا أي كسبنا خطيئة وقال أبو عبيدة أخطأ وخطىء لغتان والفرق بين أخطأ وخطىء أن أخطأ قد يكون على وجه الإثم وغير الإثم فأما خطىء فالإثم لا غير قال الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
والإصر في اللغة الثقل قال النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الأصر عنهم بعد ما غرقوا وكل ما عطفك على شيء من عهد أو رحم فهو أصر وجمعه آصار ويقال أصره يأصره إصرا والاسم الأصر قال النابغة :
يا ابن الحواضن والحاضنات
أتنقض إصرك حالا فحالا
أي عهدك والآصرة صلة الرحم للعطف لها قال الكميت:
نضحت آديم الود بيني وبينهم
بآصرة الأرحام لو تتبلل.
المعنى:
ثم بين سبحانه أنه فيما أمر ونهى لا يكلف إلا دون الطاقة فقال ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾ أي لا يأمر ولا ينهى أحدا إلا ما هو له مستطيع وقيل إن معنى قوله ﴿إلا وسعها﴾ إلا يسرها دون عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها عن سفيان بن عيينة وهذا قول حسن وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لا يطيقه لأن الوسع هو ما يتسع له قدرة الإنسان وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة وقال بعضهم إن معناه إلا ما يسعها ويحل لها وهذا خطأ لأن من قال لعبده لا آمرك إلا بما أطلق لك أن تفعله لكان ذلك غيا منه وخطأ لأن نفس أمره إطلاق فكأنه قال لا أطلق لك ولا أمرك إلا بما أمرك وقوله ﴿لها ما كسبت﴾ معناه لها ثواب ما كسبت من الطاعات ﴿وعليها﴾ جزاء ﴿ما اكتسبت﴾ من السيئات ويجوز أيضا أن يسمى الثواب والعقاب كسبا من حيث حصلا بكسبه ﴿ربنا لا تؤاخذنا﴾ قيل تقديره قولوا ربنا على جهة التعليم للدعاء عن الحسن وقيل تقديره يقولون ربنا على جهة الحكاية والثناء ﴿إن نسينا أو أخطأنا﴾ قيل فيه وجوه (أحدها) أن المراد بنسينا تركنا كقوله تعالى ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه وقوله ﴿وتنسون أنفسكم﴾ ومنه قول الشاعر :
ولم أك عند الجود للجود قاليا
ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
أي تاركا والمراد بأخطانا أذنبنا لأن المعاصي توصف بالخطأ من حيث أنها ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا فكأنه تعالى أمرهم أن يستغفروا مما تركوه من الواجبات ومما فعلوه من المقبحات (والثاني) معنى قوله ﴿إن نسينا﴾ إن تعرضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر والغفلة عن الواجب أو أخطأنا أي تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ويحسن الدعاء بذلك كما يحسن الاعتذار منه (والثالث) أن معناه لا تؤاخذنا أن نسينا أي إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو والغفلة أو أخطأنا أي فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به وإن كان مأمونا منه المؤأخذة بمثله ويجري ذلك مجرى قوله فيما بعد ﴿ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ على أحد الأجوبة وقوله رب احكم بالحق وقد تقدم ذكر أمثاله (والرابع) ما روي عن ابن عباس وعطاء أن معناه لا تعاقبنا إن عصينا جاهلين أو متعمدين وقوله ﴿ربنا لا تحمل علينا إصرا﴾ قيل فيه وجهان (أحدهما) أن معناه لا تحمل علينا عملا نعجز عن القيام به ولا تعذبنا بتركه ونقضه عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع والسدي (والثاني) أن معناه لا تحمل علينا ثقلا عن الربيع ومالك وعطاء يعني لا تشدد الأمر علينا ﴿كما حملته على الذين من قبلنا﴾ أي على الأمم الماضية والقرون الخالية لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وأخذ عليهم من العهود والمواثيق وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفا عنها ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ قيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه ما يثقل علينا تحمله من أنواع التكاليف والامتحان مثل قتل النفس عند التوبة وقد يقول الرجل لأمر يصعب عليه إني لا أطيقه (والثاني) أن معناه ما لا طاقة لنا به من العذاب عاجلا وآجلا (والثالث) أنه على سبيل التعبد وإن كان تعالى لا يكلف ولا يحمل أحدا ما لا يطيقه كما ذكرنا قبل ﴿واعف عنا﴾ ذنوبنا ﴿واغفر لنا﴾ خطايانا أي استرها ﴿وارحمنا﴾ بإنعامك علينا في الدنيا والعفو في الآخرة وإدخال الجنة ﴿أنت مولانا﴾ أي ولينا وأولى بالتصرف فينا وناصرنا ﴿فانصرنا على القوم الكافرين﴾ أي أعنا عليهم بالقهر لهم والغلبة بالحجة عليهم وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن الله سبحانه قال عند كل فصل من هذا الدعاء فعلت واستجبت ولهذا استحب الإكثار من هذا الدعاء ففي الحديث المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه أي كفتا قيام ليلته وعن عبد الله بن مسعود قال لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) انتهى به إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلثا الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته إلا المقحمات وعن ابن المنكدر رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال في آخر سورة البقرة آيات إنهن قرآن وإنهن دعاء وإنهن يرضين الرحمن وفي تفسير الكلبي بإسناده ذكره عن ابن عباس قال بينا رسول الله إذ سمع نقيضا يعني صوتا فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح فنزل عليه ملك وقال إن الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبيا قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لا يقرأهما أحد إلا أعطيته حاجته وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال كان الرجل إذا تعلم سورة البقرة جد فينا أي عظم.