الآيات 36-40
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿36﴾ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴿37﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴿38﴾ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿39﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿40﴾
القراءة:
قرأ لن تنال الله ولكن تناله بالتاء يعقوب وقرأ الأول بالتاء أبو جعفر وقرأ الباقون بالياء فيهما وقرأ ابن كثير وأهل البصرة أن الله يدفع بغير ألف والباقون ﴿يدافع﴾ بالألف وقرأ أهل المدينة ويعقوب ولو لا دفاع الله بالألف والباقون ﴿دفع الله﴾ بغير ألف وقرأ أهل المدينة وحفص ﴿أذن﴾ بضم الألف يقاتلون بفتح التاء وقرأ أبو بكر وأبو عمرو ويعقوب ﴿أذن﴾ بضم الألف يقاتلون بكسر التاء وقرأ ابن عامر أذن بفتح الألف ﴿يقاتلون﴾ بفتح التاء والباقون أذن فتح الألف يقاتلون بكسر التاء وقرأ أهل الحجاز لهدمت خفيفة الدال والباقون بالتشديد وأظهر التاء عاصم ويعقوب وأدغمه الآخرون وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمرو وأبو جعفر الباقر (عليه السلام) وقتادة وعطاء والضحاك صوافن بالنون وقرأ الحسن وشقيق وأبو موسى الأشعري وسليمان التيمي صوافي وقرأ جعفر بن محمد (عليهما السلام) وصلوات بضم الصاد واللام وقرأ الجحدري والكلبي وصلوات بضم الصاد وفتح اللام.
الحجة:
التأنيث في تنال للجماعة وللفظ التقوى والتذكير لمعنى الجمع لأن التقوى بمعنى الاتقاء والدفع مصدر دفع والدفاع مصدر دافع وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو طارقت النعل وعاقبت اللص وأما قوله ﴿أذن للذين يقاتلون﴾ فالقراءات فيها متقاربة والمأذون لهم في القتال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما ظلموا به أن المشركين أخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم هاجروا إلى المدينة فمن قرأ أذن على بناء الفعل للفاعل فلما تقدم من ذكر الله سبحانه وقوله ﴿للذين يقاتلون﴾ في موضع نصب ومن قرأ ﴿يقاتلون﴾ فالمعنى أنهم يقاتلون عدوهم الظالمين لهم ومن قرأ ﴿أذن﴾ على بناء الفعل للمفعول به فالمعنى على أن الله سبحانه أذن لهم في القتال والجار والمجرور في موضع رفع وقوله لهدمت بالتخفيف وإنما جاز لأن ذلك قد يكون للقليل والكثير تقول ضربت زيدا ضربة وضربته ألف ضربة فاللفظ في القلة والكثرة على حالة واحدة و﴿هدمت﴾ بالتشديد يختص بالكثرة قال الشاعر:
ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
فأما من قال صوافن فمثل الصافنات وهي الجياد من الخيل إلا أنه استعمل هنا في
الإبل والصافن الرافع إحدى رجليه معتمدا منها على سنبكها قال عمرو بن كلثوم
تركنا الخيل عاكفة عليه
مقلدة أعنتها صفونا
والصوافي الخوالص لوجه الله وإما صلوات وصلوات فيمكن أن يكون جمع صلاة وإن كانت غير مستعملة فيكون مثل حجرة وحجرات وحجرات.
اللغة:
البدن جمع بدنة وهي الإبل المبدنة بالسمن قال الزجاج تقول بدنت الإبل أي سمنتها وقيل أصل البدن الضخم وكل ضخم بدن وبدن بدنا وبدنا إذا ضخم وبدن تبدينا إذا أسن وثقل لحمه بالاسترخاء وفي الحديث إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود وقال وكنت خلت الشيب والتبدينا والوجوب الوقوع يقال وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب للغروب ووجب الحائط وقع ووجب القلب اضطرب بأن وقع ما يوجب اضطرابه ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به ووجب البيع إذا وقع وجوبا والصواف المصطفة الأزهري عن ابن الأعرابي قال قنعت بما رزقت بالكسر وقنعت إلى فلان خضعت له بالفتح والمعتر والمعتري واحد وروي عن الحسن وأبي رجاء وعمرو بن عبيد أنهم قرءوا المعتري يقال عراه واعتراه وعره واعتره كله بمعنى أتاه وقصده قال طرفة:
في جفان نعتري نادينا
وسديف حين هاج الصنبر
ويقال قنع الرجل إلى فلان قنوعا إذا سأل قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني
مفاقرة أعف من القنوع
والصومعة أصلها من الانضمام ومنه الأصمع للاصق الأذنين وكل منضم فهو متصمع قال أبو ذؤيب يصف صائدا:
فرمى فأنفذ من نحوص عائط
سهما فخر وريشه متصمع
والبيع كنائس اليهود.
الإعراب:
و﴿البدن﴾ منصوب بإضمار فعل تقديره وجعلنا البدن جعلناها ﴿صواف﴾ منصوب على الحال ﴿الذين أخرجوا من ديارهم﴾ في محل الجر بأنه من الذين يقاتلون ويجوز أن يكون في موضع الرفع على تقديرهم الذين أخرجوا وفي محل النصب على المدح على تقدير أعني الذين أخرجوا ﴿بغير حق﴾ في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف وتقديره أخرجوا إخراجا بهذه الصفة ﴿إلا أن يقولوا ربنا الله﴾ إلا هاهنا لنقض النفي وتقديره إلا بأن يقولوا أي بقولهم و﴿بعضهم﴾ منصوب على البدل من الناس وهو بدل البعض من الكل والتقدير دفع الله بعض الناس ببعض.
المعنى:
ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال ﴿والبدن﴾ وهي الإبل العظام وقيل الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي عن عطاء والسدي ﴿جعلناها لكم من شعائر الله﴾ أي من أعلام دينه وقيل من علامات مناسك الحج والمعنى جعلناها لكم فيها عبادة الله من سوقها إلى البيت وإشعارها وتقليدها ونحرها والإطعام منها ﴿لكم فيها خير﴾ أي نفع في الدنيا والآخرة وقيل أراد بالخير ثواب الآخرة وهو الوجه لأنه الغرض المطلوب ﴿فاذكروا اسم الله عليها﴾ أي في حال نحرها وعبر به عن النحر قال ابن عباس هو أن يقول الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك ولك ﴿صواف﴾ أي قياما مقيدة على سنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس وقيل هو أن تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاثة تنحر كذلك فيسوي بين أوظفتها لئلا يتقدم بعضها على بعض عن مجاهد وقيل هو أن تنحر وهي صافة أي قائمة ربطت يديها ما بين الرسغ والخف إلى الركبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) هذا في الإبل فأما البقر فإنه يشد يداها ورجلاها ويطلق ذنبها والغنم يشد ثلاث قوائم منها ويطلق فرد رجل منها ﴿فإذا وجبت جنوبها﴾ أي سقطت إلى الأرض وعبر بذلك عن تمام خروج الروح منها ﴿فكلوا منها﴾ وهذا إذن وليس بأمر لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمونها على نفوسهم وقيل إن الأكل منها واجب إذا تطوع بها ﴿وأطعموا القانع والمعتر﴾ اختلف في معناهما فقيل إن القانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل والمعتر الذي يتعرض لك أن تطعمه من اللحم ويسأل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة وإبراهيم وقيل القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل عن الحسن وسعيد بن جبير وقال أبو جعفر (عليه السلام) وأبو عبد الله (عليه السلام) القانع الذي يقنع بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه غضبا والمعتر الماد يده لتطعمه وفي رواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال القانع الذي يسأل فيرضى بما أعطي والمعتر الذي يعتري رجاءه ممن لا يسأل وروي عن ابن عباس أنه قال في جواب نافع بن الأزرق لما سأله عن ذلك القانع الذي يقنع بما أعطي والمعتر الذي يعتري الأبواب أ ما سمعت قول زهير:
على مكثريهم حق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
وروي عنهم (عليهم السلام) أنه ينبغي أن يطعم ثلثه ويعطي القانع والمعتر ثلثه ويهدي لأصدقائه الثلث الباقي ﴿كذلك﴾ أي مثل ما وصفناه ﴿سخرناها لكم﴾ أي ذللناها لكم حتى لا تمنع عما تريدون منها من النحر والذبح بخلاف السباع الممتنعة ولتنتفعوا بركوبها وحملها ونتاجها نعمة منا عليكم ﴿لعلكم تشكرون﴾ ذلك ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾ أي لن تصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها وإنما يصعد إليه التقوى عن الحسن وهذا كناية عن القبول وذلك إنما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه فخاطب الله سبحانه عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم وكانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله وقيل معناه لن تبلغوا رضا الله بذلك وإنما تبلغونه بالتقوى ﴿كذلك سخرها لكم﴾ تقدم تفسيره ﴿لتكبروا الله على ما هداكم﴾ أي على ما بين لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وقيل هو أن يقول الله أكبر على ما هدانا ﴿وبشر المحسنين﴾ أي الموحدين عن ابن عباس وقيل الذين يعملون أعمالا حسنة ولا يسيئون إلى غيرهم ثم بين سبحانه دفعه عن المؤمنين بشارة لهم بالنصر فقال ﴿إن الله يدافع عن الذين آمنوا﴾ غائلة المشركين بأن يمنعهم منهم وينصرهم عليهم ﴿إن الله لا يحب كل خوان كفور﴾ وهم الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه عن ابن عباس وقيل من ذكر اسم غير الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور عن الزجاج ثم بين سبحانه إذنه لهم في قتال الكفار بعد تقدم بشارتهم بالنصرة فقال ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا﴾ أي بسبب أنهم ظلموا وقد سبق معناه في الحجة وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجيء مشجوج ومضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول لهم (عليهم السلام) اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة وهي أول آية نزلت في القتال وفي الآية محذوف وتقديره أذن للمؤمنين أن يقاتلوا أو بالقتال من أجل أنهم ظلموا بأن أخرجوا من ديارهم وقصدوا بالإيذاء والإهانة ﴿وإن الله على نصرهم لقدير﴾ وهذا وعد لهم بالنصر معناه أنه سينصرهم ثم بين سبحانه حالهم فقال ﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله﴾ يحتمل معناه أن يكون أراد أخرجوا إلى المدينة فتكون الآية مدنية ويحتمل إلى الحبشة فتكون الآية مكية وذلك بأنهم تعرضوا لهم بالأذى حتى اضطروا إلى الخروج وقوله ﴿بغير حق﴾ معناه من غير أن استحقوا ذلك عن الجبائي أي لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده وقال أبو جعفر (عليه السلام) نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين أخرجوا من ديارهم وأخيفوا ﴿ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾ قد تقدم الكلام في هذا ﴿لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد﴾ أي صوامع في أيام شريعة عيسى وبيع في أيام شريعة موسى ومساجد في أيام شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الزجاج والمعنى ولو لا أن دفع الله بعض الناس ببعض لهدم في كل شريعة بناء المكان الذي يصلي فيه وقيل البيع للنصارى في القرى والصوامع في الجبال والبراري ويشترك فيها الفرق الثلاث والمساجد للمسلمين والصلوات كنيسة اليهود عن أبي مسلم وقال ابن عباس والضحاك وقتادة الصلوات كنائس اليهود يسمونها صلوة فعربت وقال الحسن أراد بذلك عين الصلاة وهدم الصلاة بقتل فاعليها ومنعهم من إقامتها وقيل أراد بالصلوات المصليات كما قال لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وأراد المساجد ﴿يذكر فيها اسم الله كثيرا﴾ الهاء تعود إلى المساجد وقيل إلى جميع المواضع الذي تقدمت لأن الغالب فيها ذكر الله ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ هذا وعد من الله بأنه سينصر من ينصر دينه وشريعته ﴿إن الله لقوي عزيز﴾ أي قادر قاهر.