الآيات 11-15

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿11﴾ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿12﴾ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴿13﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿14﴾ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴿15﴾

القراءة:

قرأ روح وزيد عن يعقوب خاسر الدنيا والآخرة بالجر وهو قراءة مجاهد وحميد بن قيس والباقون ﴿خسر﴾ بغير ألف و﴿الآخرة﴾ بالنصب وقرأ أهل البصرة وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر اللام والباقون بسكونها وكذلك ثم ليقضوا وزاد ابن عامر وليوفوا وليطوفوا بالكسر فيهما أيضا وقرأ أبو بكر وليوفوا بتشديد الفاء والأعشى عنه بكسر اللام أيضا والباقون وليوفوا ساكنة الواو خفيفة الفاء.

الحجة:

من قرأ ﴿خسر الدنيا والآخرة﴾ فإن هذه الجملة تكون بدلا من قوله ﴿انقلب على وجهه﴾ فكأنه قال وإن أصابته فتنة خسر الدنيا والآخرة ومثله قول الشاعر:

إن يجبنوا أو يغدروا أو يبخلوا لا يحفلوا

يغدوا عليك مرجلين كأنهم لم يفعلوا

فقوله يغدوا عليك بدل من لا يحفلوا ومن قرأ خاسر الدنيا والآخرة فإنه منصوب على الحال وأما قوله ﴿ثم ليقطع﴾ فإن أصل هذه اللام الكسر فإذا دخلها الواو والفاء أو ثم فمن أسكنها مع الفاء والواو فإن الفاء والواو يصيران كشيء واحد في نفس الكلمة لأن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه فصار بمنزلة كتف وفخذ فأما ثم فهو منفصل عن الكلمة وليست كالواو والفاء فمن أسكن اللام معها شبه الميم في ثم بالفاء والواو وجعله كقولهم أراك منتفخا كقول العجاج

أراك منتصبا وما تكردسا

ومثل ذلك قولهم وهي فهي.

اللغة:

الحرف والطرف والجانب نظائر والاطمئنان التمكن والفتنة هاهنا المحنة والانقلاب الرجوع والعشير الصاحب المعاشر أي المخالط والنصرة المعونة وقيل إن النصرة هاهنا الرزق تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من أعطاني أعطاه الله قال الفقعسي.

وإنك لا تعطي امرءا فوق حظه

ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

أي معطيه وجائده ويقال نصر الله أرض فلان أي جاد عليها بالمطر والسبب كل ما يتوصل به إلى الشيء ومنه قيل للحبل سبب وللطريق سبب وللباب سبب.

الإعراب:

﴿يدعو لمن ضره أقرب من نفعه﴾ قال الزجاج اختلف الناس في تفسير هذه اللام فقال البصريون والكوفيون معنى هذه اللام التأخير والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه ولم يشرحوه قال وشرحه أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون في أول الكلام فقدمت لتجعل في حقها وإن كان أصلها أن يكون في آخره كما أن لام أن حقها أن تكون في الابتداء فلما لم يجز أن تلي إن جعلت في الخبر مثل قولك أن زيدا لقائم فهذا قول وقالوا أيضا أن يدعو معه هاء مضمرة وإن ذلك في موضع رفع ويدعو في موضع الحال المعنى ذلك هو الضلال البعيد يدعوه أي في حال دعائه إياه ويكون ﴿لمن ضره أقرب﴾ مستأنفا مرفوعا بالابتداء وخبره ﴿لبئس المولى ولبئس العشير﴾ وفيه وجه آخر أغفله الناس وهو أن يكون ذلك في تأويل الذي وهو في موضع نصب لوقوع ﴿يدعو﴾ عليه ويكون ﴿لمن ضره﴾ مستأنفا وهو مثل قوله وما تلك بيمينك يا موسى ومعناه وما التي بيمينك وقال أبو علي إن اللامات التي هي حروف دالة على معان سوى الجارة والتي للأمر على أربعة أضرب (أحدها) تدخل على خبر إن إذا خففت أو على غير خبرها ليفصل بين أن النافية والمؤكدة مثل قوله وإن كانوا ليقولون وإن كاد ليضلنا (والثاني) يختص بالدخول على الفعل المضارع والماضي ويكون جوابا للقسم نحو قوله ﴿لأملئن جهنم﴾ وقول امرىء القيس لناموا فما إن من حديث ولا صال (والثالث) يدخل في الشرط إذا كان جزاؤه معتمدا على قسم نحو قوله ﴿ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا﴾ (و الرابع) يختص بالدخول على الأسماء المبتدأة وهي التي تدخل على خبر أن ويدخل على الفعل المضارع إذا كان للحال وكان خبرا لأن وهو أحد جهتي مضارعة الفعل المضارع للاسم وقد تدخل هذه اللام في ضرورة الشعر على خبر المبتدأ في غير أن وذلك كقوله أم الحليس لعجوز شهربة وكما حكى أبو الحسن في حكاية نادرة أن زيدا وجهه لحسن فإذا كان هذه اللام حقها أن تدخل على المبتدأ أو على اسم أن أو خبرها من حيث أدخلها على المبتدأ وكان دخولها على خبر المبتدأ ضرورة مع أنه المبتدأ في المعنى فدخوله في الموصول والمراد به الصلة ينبغي أن لا يجوز لأن الصلة ليست بالموصول كما أن خبر المبتدأ المبتدأ فمن زعم أن اللام في ﴿لمن ضره﴾ حكمها أن تكون في المبتدأ الذي في الصلة ثم قدم على الموصول كان مخطئا وأيضا فإن اللام إذا كان حكمه أنه يكون في الصلة ثم قدم على الموصول فذلك غير سائغ كما أن سائر ما يكون في الصلة لا يتقدم على الموصول قال والوجه في ذلك أن يجعل قوله ﴿يدعو﴾ تكرارا للفعل الأول على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء من فاعله ولا تجعلها متعدية إذ قد تعدت مرة ويجوز أن تجعل مع يدعو هاء مضمرة ويكون في موضع نصب على الحال من ذلك فكأنه قال ذلك هو الضلال البعيد مدعوا ويجوز أن تجعل ذلك هو الضلال البعيد مفعول يدعو على أن يكون ذلك في معنى الذي يكون هو الضلال البعيد صلته كما قال أبو إسحاق أيضا فتكون اللام في هذه الوجوه داخلة على اسم مبتدإ موصول ولا موضع للجملة التي هي ﴿لمن ضره أقرب من نفعه﴾ الآية لأنها لا تقع موقع مفرد ويكون اللام في قوله ﴿لبئس المولى ولبئس العشير﴾ في موضع رفع لوقوعه خبر المبتدأ وتكون هذه اللام لليمين فهذا ما يجب أن تحمل الآية عليه وأقول إن إعرابه على الوجه الأول أن يكون ﴿ما لا يضره﴾ مفعول ﴿يدعو﴾ و﴿ما لا ينفعه﴾ معطوفا عليه و﴿ذلك﴾ مبتدأ و﴿هو الضلال البعيد﴾ خبره ويدعو تكرارا للفعل الأول وعلى الوجه الثاني يكون يدعو حالا من معنى الإشارة في ذلك وعلى الوجه الثالث يكون ذلك اسما موصولا بمعنى الذي والجملة صلته والموصول والصلة في موضع نصب بأنه المفعول ليدعو واللام في ﴿لمن ضره﴾ لام الابتداء والموصول والصلة في موضع رفع بالابتداء و﴿لبئس المولى﴾ جواب القسم والقسم والمقسم في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ والعائد إلى المبتدأ هو الضمير المحذوف من الجملة لأن التقدير لبئس المولى هو ولبئس العشير هو قال الزجاج وفيه وجه آخر وهو أن يكون يدعو في معنى يقول ويكون من في موضع رفع وخبره محذوف ويكون المعنى لمن ضره أقرب من نفعه هو مولاي ومثله قول عنترة:

يدعون عنتر والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم

أي يقولون يا عنتر ويجوز أن يكون يدعو في معنى يسمي كما قال ابن أحمر:

أهوى لها مشقصا حشرا فشبرقها

وكنت أدعو قذاها الإثمد الفرد

وأقول إنما قال خبر المبتدأ هنا محذوف لأن من يعبد الصنم لا يقول لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى فلذلك قدر الخبر محذوفا.

النزول:

قيل نزلت هذه الآية ومن الناس من يعبد الله على حرف في جماعة كانوا يقدمون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فكان أحدهم إذا صح جسمه ونتجت فرسه وولدت امرأته غلاما وكثرت ماشيته رضي به واطمأن إليه وإن أصابه وجع في المدينة وولدت امرأته جارية قال ما أصبت في هذا الدين إلا شرا عن ابن عباس.

المعنى:

لما تقدم ذكر الكفار وما تعاطوه من الجدال ذكر سبحانه بعده حال مقلدة الضلال والدعاة إلى الضلال فقال ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف﴾ أي على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف أي طرف حبل أو نحوه عن علي بن عيسى قال وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلها وقيل على حرف أي على شك عن مجاهد وقيل معناه أنه يعبد الله بلسانه دون قلبه عن الحسن قال الدين حرفان أحدهما اللسان والثاني القلب فمن اعترف بلسانه ولم يساعده قلبه فهو على حرف ﴿فإن أصابه خير اطمأن به﴾ أي أصابه رخاء وعافية وخصب وكثرة مال اطمأن على عبادة الله بذلك الخير ﴿وإن أصابته فتنة﴾ أي اختبار بجدب وقلة مال ﴿انقلب على وجهه﴾ أي رجع عن دينه إلى الكفر والمعنى انصرف إلى وجهه الذي توجه منه وهو الكفر ﴿خسر الدنيا والآخرة﴾ أي خسر الدنيا بفراقه وخسر الآخرة بنفاقه ﴿ذلك هو الخسران المبين﴾ أي الضرر الظاهر لفساد عاجله وآجله وقيل خسر في الدنيا العز والغنيمة وفي الآخرة الثواب والجنة ﴿يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه﴾ أي يدعو هذا المريد بعبادته سوى الله ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إن عبده ﴿ذلك﴾ الذي فعل ﴿هو الضلال البعيد﴾ عن الحق والرشد يدعوه على الوجه الآخر معناه ﴿يدعو﴾ الذي هو الضلال البعيد ﴿لمن ضره أقرب من نفعه﴾ قال السدي يعني الذي ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع وإن كان لا نفع عنده ولكن العرب تقول لما لا يكون هذا بعيد ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون فلما كان نفعه بعيدا قيل لضره أنه أقرب من نفعه على معنى أنه كائن ﴿لبئس المولى﴾ أي لبئس الناصر هو ﴿ولبئس العشير﴾ أي الصاحب المعاشر المخالط هو يعني الصنم يخالطه العابد ويصاحبه ولما ذكر الشاك في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال ﴿إن الله يدخل الذين آمنوا﴾ بالله وصدقوا رسله ﴿وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد﴾ بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأعدائه وأهل معصيته من الإهانة لا يدفعه دافع ولا يمنعه مانع ثم قال ﴿من كان يظن أن لن ينصره الله﴾ الهاء في ينصره عائدة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس وقتادة والمعنى من كان يظن أن الله لن ينصر نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يعينه على عدوه ﴿في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء﴾ أي فليشدد حبلا في سقفه ﴿ثم ليقطع﴾ أي ليمدد ذلك الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا والمعنى فليختنق غيظا حتى يموت فإن الله ناصره ولا ينفعه غيظه وهو قوله ﴿فلينظر هل يذهبن كيده﴾ أي صنعه وحيلته ﴿ما يغيظ﴾ ما بمعنى المصدر أي هل يذهبن كيده غيظه عن قتادة وأكثر المفسرين وقيل فليمدد بسبب إلى السماء معناه فليطلب شيئا يصل به إلى السماء المعروفة ثم ليقطع نصر الله ووحي الله عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وليزل بكيده ما يغيظه من نصر الله له ونزول الوحي عليه أي لا يتهيأ له ذلك ولا سبيل له إليه فليتجرع ما يغيظه وإنما قال سبحانه ذلك على وجه التبعيد أي كما لا يتهيأ لهم الوصول إلى السماء كذلك لا يتهيأ لهم إزالة ما يغيظهم من أمر رسول الله ونصره على أعدائه دائما وإنما ذكر السماء لأن النصر يأتيه من قبل السماء ومن الملائكة عن أبي علي الجبائي وقيل إن الهاء في ﴿ينصره﴾ عائدة إلى من عن مجاهد والضحاك وأبي مسلم ثم اختلف في معناه فقيل من كان يظن من الناس أن الله لا ينصره فليجهد جهده وليصعد السماء ثم ليقطع المسافة فلينظر هل ينفعه كيده في إزالة غيظه لما يدعى إليه من دين الله فإن الذي حكم الله به لا يبطل بكيد الكائد عن أبي مسلم وقيل المراد بالنصر الرزق ويقال أرض منصورة أي ممطورة والمعنى من ظن أن الله لا يرزقه في الدنيا والآخرة فليختنق نفسه أي لا يمكنه تكثير رزقه أي كما لا يقدر أن يزيد فيما رزقه الله بهذا النوع من الكيد كذلك لا يقدر عليه بسائر أنواع الكيد وهذا مثل ضربه الله لهذا الجاهل الذي يسخط لما أعطاه الله أي مثله مثل من فعل بنفسه هذا.