الآيات 1-5
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴿1﴾ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴿2﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴿3﴾ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿4﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿5﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير عاصم سكرى وما هم بسكرى والباقون ﴿سكارى﴾ في الموضعين وفي الشواذ قراءة الأعرج والحسن بخلاف سكرى بضم السين وقرأ أبو جعفر وربات بالهمزة هاهنا وفي حم والباقون ﴿وربت﴾.
الحجة:
قالوا رجل سكران وامرأة سكرى والجمع سكارى وسكارى بضم السين وفتحها إلا أن القراءة بالضم وأما سكرى في الجمع فهو مثل صرعى وجرحى وذلك لأن السكر كأنه علة لحقت عقولهم كما أن الصرع والجرح علة لحقت أجسامهم وفعلى مختص في الجمع بالمبتلين كالمرضى والسقمي والهلكى وأما سكرى بالضم فيجوز أن يكون اسما مفردا على فعلى بمعنى الجمع وأما قوله ﴿ربت﴾ فهو من ربا يربو إذا زاد وأما الهمز فيمن ربات القوم إذا أشرفت عليهم عاليا لتحفظهم وهذا كأنه ذهب إلى علو الأرض لما فيها من إفراط الربو فإذا وصف علوها دل على أن الزيادة شاعت فيها.
اللغة:
الزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة وقيل إن أصله زل فضوعف للمبالغة وأثبته البصريون قالوا إن زل ثلاثي وزلزل رباعي وإن اتفق بعض الحروف في الكلمتين لأنه لا يمتنع مثل هذا أ لا ترى أنهم يقولون دمث ودمثر وسبط وسبطر وليس أحدهما مأخوذا من الآخر وإن كان معناهما واحدا لأن الزاي ليست من حروف الزيادة والزلزال بالفتح الاسم قال الشاعر:
يعرف الجاهل المضلل أن الدهر
فيه النكراء والزلزال والذهول
الذهاب عن الشيء دهشا وحيرة يقال ذهب عنه يذهل ذهولا وذهلا بمعنى والذهل السلو قال:
صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة والحمل بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس والمريد المتجرد للفساد وقيل إن أصله الملاسة فكأنه متملس من الخير ومنه صخرة مرداء أي ملساء ومنه الأمرد والممرد من البناء المتطاول المتجاوز والمضغة مقدار ما يمضغ من اللحم والهمود الدروس والدثور قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا
وأرى ثيابك باليات همدا
والبهيج الحسن الصورة.
الإعراب:
العامل في ﴿يوم ترونها﴾ قوله ﴿تذهل﴾ أي تذهل كل مرضعة في هذا اليوم عما أرضعته ويجوز أن يكون ما مصدرية فيكون التقدير تذهل كل مرضعة في هذا اليوم عن إرضاعها ولدها ومفعول أرضعت محذوف على الوجهين ومرضعة جار على الفعل يقال امرأة مرضع أي ذات إرضاع أرضعت ولدها أو أرضعته غيرها ومرضعة ترضع قال امرؤ القيس:
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول
و﴿سكارى﴾ نصب على الحال وإن جعلت ﴿ترى﴾ بمعنى الظن فهو المفعول الثاني له ﴿كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله﴾ الهاء في عليه يعود إلى الشيطان والهاء في أنه يحتمل وجهين أن يكون ضمير الأمر والشأن وأن يكون عائدا إلى الشيطان وإنما فتحت أن في قوله ﴿فإنه يضله﴾ على أحد وجهين أن يكون عطفا على الأولى للتأكيد والمعنى كتب عليه أنه من تولاه يضله وتأويله كتب على الشيطان إضلال متوليه وهدايتهم إلى عذاب السعير وهذا قول الزجاج وفيه نظر لأن الأصل في التوكيد أن لا يدخل حرف العطف بين المؤكد والمؤكد فالقول الصحيح فيه أن يكون على معنى فالشأن أنه يضله فيكون مبنيا على مبتدأ مضمر و﴿نقر﴾ مرفوع بالعطف على ﴿خلقناكم﴾ أو للاستئناف ويكون خبر مبتدإ محذوف أي ونحن نقر.
و﴿ما نشاء﴾ يجوز أن يكون مفعول نقر ويجوز أن يكون ظرف زمان ويكون مفعول نقر محذوفا وتقديره ونقر في الأرحام الولد مدة مشيئتنا و﴿طفلا﴾ منصوب على الحال ﴿ثم لتبلغوا﴾ أي لأن تبلغوا والجار والمجرور معطوف على محذوف تقديره لترضعوا وتشبوا ثم لتبلغوا أشدكم ﴿لكيلا يعلم﴾ إذا اجتمع اللام بمعنى كي مع كي فالحكم للأم وكي يكون بمعنى أن واللام يتعلق بيرد.
النزول:
قال عمران بن الحصين وأبو سعيد الخدري نزلت الآيتان من أول السورة ليلا في غزاة بني المصطلق وهم حي من خزاعة والناس يسيرون فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام والناس من بين باك أو جالس حزين متفكر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أ تدرون أي يوم ذاك قالوا الله ورسوله أعلم قال ذاك يوم يقول الله تعالى لآدم أبعث بعث النار من ولدك فيقول آدم من كم وكم فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا فمن ينجو يا رسول الله فقال أبشروا فإن معكم خليقتين يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيء إلا كثرتاه ما أنتم في الناس إلا كشعرة بيضاء في الثور الأسود أو كرقم في ذراع البكر أو كشأمة في جنب البعير ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب وفي بعض الروايات أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله سبعون ألفا قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال اللهم اجعله منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) سبقك بها عكاشة قال ابن عباس كان الأنصاري منافقا فلذلك لم يدع له.
المعنى:
خاطب الله سبحانه جميع المكلفين فقال ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾ معناه يا أيها العقلاء المكلفون اتقوا عذاب ربكم واخشوا معصية ربكم كما يقال احذر الأسد والمراد احذر افتراسه لا عينه ﴿إن زلزلة الساعة﴾ أي زلزلة الأرض يوم القيامة عن ابن عباس والحسن والسدي والمعنى أنها تقارن قيام الساعة وتكون معها وقيل إن هذه الزلزلة قبل قيام الساعة وإنما أضافها إلى الساعة لأنها من أشراط ظهورها وآيات مجيئها عن علقمة والشعبي ﴿شيء عظيم﴾ أي أمر عظيم هائل لا يطاق وقيل معناه أن شدة يوم القيامة أمر صعب وفي هذا دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا فإن الله سبحانه سماها شيئا وهي معدومة ﴿يوم ترونها﴾ معناه يوم ترون الزلزلة أو الساعة ﴿تذهل كل مرضعة عما أرضعت﴾ أي تشغل كل مرضعة عن ولدها وتنساه وقيل تسلو عن ولدها ﴿وتضع كل ذات حمل حملها﴾ أي تضع الحبالى ما في بطونها وفي هذا دلالة على أن الزلزلة تكون في الدنيا فإن الرضاع ووضع الحمل إنما يتصور في الدنيا قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ومن قال إن المراد به يوم القيامة قال أنه تهويل لأمر القيامة وتعظيم لما يكون فيه من الشدائد أي لو كان ثم مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت وإن لم يكن هناك حامل ولا مرضعة ﴿وترى الناس سكارى﴾ من شدة الخوف والفزع ﴿وما هم بسكارى﴾ من الشراب وقيل معناه كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم لأنهم يضطربون اضطراب السكران ثم علل سبحانه ذلك فقال ﴿ولكن عذاب الله شديد﴾ فمن شدته يصيبهم ما يصيبهم ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم﴾ هذا إخبار عن المشركين الذين يخاصمون في توحيد الله سبحانه ونفي الشرك عنه بغير علم منهم بل للجهل المحض وقيل إن المراد به النضر بن الحرث فإنه كان كثير الجدال وكان يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وينكر البعث ﴿ويتبع كل شيطان مريد﴾ يغويه عن الهدى ويدعوه إلى الضلال وإن كان المراد بالآية النضر بن الحرث فالمراد بالشيطان المريد شيطان الإنس لأنه كان يأخذ من الأعجام واليهود ما يطعن به على المسلمين ﴿كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله﴾ معناه أنه يتبع كل شيطان كتب الله على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ أنه يضل من تولاه فكيف يتبع مثله ويعدل بقوله عمن دعاه إلى الرحمة وقيل معناه كتب على الشيطان أنه من تولاه أضله الله تعالى وقيل معناه كتب على المجادل بالباطل إن من اتبعه وولاه يضله عن الدين ﴿ويهديه إلى عذاب السعير﴾ ثم ذكر سبحانه الحجة في البعث لأن أكثر الجدال كان فيه فقال ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب﴾ أي في شك ﴿من البعث﴾ والنشور والريب أقبح الشك ﴿فإنا خلقناكم من تراب﴾ معناه فالدليل على صحته أنا خلقنا أصلكم وهو آدم (عليه السلام) من تراب فمن قدر على أن يصير التراب بشرا سويا حيا في الابتداء قدر على أن يحيي العظام ويعيد الأموات ﴿ثم من نطفة﴾ معناه ثم خلقنا أولاده ونسله من نطفة في أرحام الأمهات وهي الماء القليل يكون من الذكر والأنثى وكل ماء صاف فهو نطفة قل أم كثر ﴿ثم من علقة﴾ بأن تصير النطفة علقة وهي القطعة من الدم الجامد ﴿ثم من مضغة﴾ أي شبه قطعة من اللحم ممضوغة فإن معنى المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم ﴿مخلقة وغير مخلقة﴾ أي تامة الخلق وغير تامة عن ابن عباس وقتادة وقيل مصورة وغير مصورة وهي ما كان سقطا لا تخطيط فيه ولا تصوير عن مجاهد ﴿لنبين لكم﴾ معناه لندلكم على مقدورنا بتصريفكم في ضروب الخلق أو لنبين لكم أن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة أو لنبين لكم ما يزيل ريبكم فحذف المفعول ﴿ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى﴾ معناه ونبقي في أرحام الأمهات ما نشاء إلى وقت تمامه عن مجاهد وقيل ونقر من قدرنا له أجلا مسمى في رحم أمه إلى أجله ﴿ثم نخرجكم طفلا﴾ أي نخرجكم من بطون أمهاتكم وأنتم أطفال والطفل الصغير من الناس وإنما وحد والمراد به الجمع لأنه بمعنى المصدر كقولهم رجل عدل ورجال عدل وقيل أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلا ﴿ثم لتبلغوا أشدكم﴾ وهو حال اجتماع العقل والقوة وتمام الخلق وقيل هو وقت الاحتلام والبلوغ وقد سبق تفسير الأشد واختلاف العلماء في معناه ﴿ومنكم من يتوفى﴾ أي قبل بلوغ الأشد أي يقبض روحه فيموت في حال صغره أو شبابه ﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر﴾ أي أسوأ العمر وأخبثه عند أهله وقيل أحقره وأهونه وهي حال الخوف وإنما صار أرذل العمر لأن الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة وإنما يرتقب الموت والفناء بخلاف حال الطفولية والضعف الذي يرجى له الكمال والتمام بعدها ﴿لكيلا يعلم من بعد علم شيئا﴾ أي لكيلا يستفيد علما وينسى ما كان به عالما وقيل معناه لكي يصير إلى حال ينعدم عقله أو يذهب عنه علومه هرما فلا يعلم شيئا مما كان علمه وإذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق عليه ذهاب الجميع قال عكرمة من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة واحتج بقوله ﴿ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي قرءوا القرآن ثم ذكر سبحانه دلالة أخرى على البعث فقال ﴿وترى الأرض هامدة﴾ يعني هالكة عن مجاهد أي يابسة دارسة من أثر النبات ﴿فإذا أنزلنا عليها الماء﴾ وهو المطر ﴿اهتزت﴾ أي تحركت بالنبات والاهتزاز شدة الحركة في الجهات ﴿وربت﴾ أي زادت أي أضعفت نباتها وقيل انتفخت لظهور نباتها عن الحسن ﴿وأنبتت﴾ يعني الأرض ﴿من كل زوج﴾ أي من كل صنف ﴿بهيج﴾ مؤنق للعين حسن الصورة واللون.