الآيات 31-40

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴿31﴾ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿32﴾ وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴿33﴾ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿34﴾ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ﴿35﴾ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴿36﴾ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴿37﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴿38﴾ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴿39﴾ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴿40﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر هيهات هيهات بالكسر والباقون بالفتح وفي الشواذ قراءة عيسى بن عمر هيهات هيهات بالتنوين والكسر وقراءة أبي حيوة هيهات هيهات بالرفع والتنوين وقراءة عيسى الهمداني هيهات هيهات مرسلة التاء.

الحجة:

قال ابن جني أما الفتح وهو قراءة العامة فعلى أنه واحد وهو اسم سمي به الفعل في الخبر وهو اسم بعد كما أن شتان اسم افترق وأف اسم أتضجر ومن كسر فقال هيهات منونا أو غير منون فهو جمع هيهاة وأصلها هيهيات فحذف الألف لأنه في آخر اسم غير متمكن كما حذفت ياء الذي وألف ذا في التثنية إذا قلت اللذان وذان ومن نون ذهب إلى التنكير أي بعدا بعدا ومن لم ينون ذهب إلى التعريف أراد البعد البعد ومن فتح وقف بالهاء لأنها كهاء أرطاة ومن كسر كتبها بالتاء لأنها جماعة ومن قال هيهات بالتنوين والرفع فإنه يكتبها بالهاء ويكون اسما معربا فيه معنى البعد وقوله ﴿لما توعدون﴾ خبر عنه فكأنه قال البعد لوعدكم وأما هيهات ساكنة التاء فينبغي أن تكون جماعة وتكتب بالتاء وأجريت في الوقف مجراها في الوصل وتقول العرب هيهات لما تبغي وهيهات منزلك قال جرير:

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خل بالعقيق نواصله

ويروى أيهات واختار الفراء الوقف على هيهات بالتاء لأن قبلها ساكنا فصارت كتأنيث أخت وقال أبو علي إنما كرر هيهات في الآية وفي البيت للتأكيد وأما اللتان في الآية ففي كل واحدة منهما ضمير مرتفع يعود إلى إلى الإخراج إذ لا يجوز خلوه من الفاعل والتقدير هيهات إخراجكم لأن قوله ﴿إنكم مخرجون﴾ بمعنى الإخراج أي بعد إخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم استبعد أعداء الله إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت ففاعل هيهات هو الضمير العائد إلى ﴿إنكم مخرجون﴾ الذي هو بمعنى الإخراج وأما في البيت ففي هيهات الأول ضمير العقيق وفسر ذلك ظهوره مع الثاني.

الإعراب:

اختلفوا في أن الثانية من قوله سبحانه ﴿أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون﴾ وكذلك قوله ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم وقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم فقال سيبويه إن الثانية في هذه المواضع الثلاث بدل من الأولى وقال أبو عمرو الجرمي وأبو العباس المبرد أنها مكررة للتأكيد وطول الكلام وقال أبو الحسن إنها مرتفع بالظرف واختاره أبو علي الفارسي وزيف القولين الأولين وأقول إن أن الأولى في قوله ﴿أيعدكم أنكم﴾ مع اسمها وخبرها في موضع نصب على أنه المفعول الثاني من الوعد ويكون تقديره على مذهب سيبويه أ يعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أي أيعدكم كونكم مخرجين بعد موتكم وكونكم ترابا وعظاما وأما على مذهب من جعله للتكرير فتقديره أيعدكم أنكم بعد موتكم مخرجون وأما على مذهب أبي الحسن وأبي علي فتقديره أيعدكم أنكم إذا متم إخراجكم واتقوا أنكم وقت موتكم أو بعد موتكم إخراجكم فقوله ﴿إنكم مخرجون﴾ في موضع رفع بالظرف الذي هو قوله ﴿إذا متم﴾ وقوله ﴿إذا متم﴾ مع ما بعده رفع لكونه جملة واقعة موقع خبر إن الأولى وموضع إذا نصب كما انتصب يوم في قولك يوم الجمعة القتال والعامل في الظرف في الأصل الفعل المحذوف أو معنى الفعل مثل قولك يحدث أو حادث أو يكون أو كائن ولا يجوز أن يكون العامل فيه الإخراج نفسه إذ لو كان كذلك لكان الكلام غير تام ولا يكون له خبر ثم يحذف هذا المضمر لدلالة الظرف عليه وقيامه مقامه ويصير الذكر الذي كان في المضمر من المحدث عنه في الظرف وذلك الذكر مرتفع بالظرف كما كان يرتفع بالفعل كما في نحو قولك زيد ذهب وزيد ذاهب فلما قام الظرف مقام الفعل متأخرا عن الاسم قام مقامه أيضا مبتدأ فرفع الاسم الظاهر كما رفعه الفعل فكذلك إذا في الآية تقديره في الأصل إذا متم إخراجكم كائن أو حادث أو يكون أو يحدث ثم اختزل الفعل أو معنى الفعل على ما قاله أبو علي فانتصب إذا بذلك كما ينتصب غدا في قولك غدا الرحيل وحذف الخبر كما حذف من غد ثم قام إذا مقام الفعل فرفع قوله ﴿إنكم مخرجون﴾ كما رفع قولك غدا الرحيل وعلى هذا فيجوز أن نقول هنا أن موضع إذا نصب بحادث أو يحدث المضمر في قولك إذا متم إخراجكم يحدث أو حادث ويجوز أن نقول إن الاسم الذي هو ﴿إنكم مخرجون﴾ واقع موقع جواب شرط إذا ويرفع بفعل مضمر تقديره أ يعدكم إذا متم يعاد إخراجكم أو يحدث إخراجكم ويكون موضع إذا نصب بذلك الفعل فأما تقدير ارتفاع أن الثانية بالظرف في الآيتين الأخيرتين فقد تقدم بيانه في موضعيهما من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته فقد أجاز أبو عثمان وغيره إضمار الظرف وإعماله كما قالوا في انتصاب مثلهم في بيت الفرزدق:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

أنه على ظرف مضمر.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على قصة قوم نوح فقال ﴿ثم أنشأنا من بعدهم﴾ أي أحدثنا وخلقنا من بعد قوم نوح ﴿قرنا آخرين﴾ أي جماعة آخرين من الناس والقرن أهل العصر على مقارنة بعضهم لبعض قيل يعني عاد أقوم هود لأنه المبعوث بعد نوح وقيل يعني ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة عن الجبائي ﴿فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون﴾ سبق تفسيره ﴿وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة﴾ أي بالبعث والجزاء ﴿وأترفناهم في الحياة الدنيا﴾ أي نعمناهم فيها بضروب الملاذ ﴿ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون﴾ من الأشربة فليس هو أولى بالرسالة منا ﴿ولئن أطعتم بشرا مثلكم﴾ فيما يدعوكم إليه ﴿إنكم إذا لخاسرون﴾ باتباعه ﴿أيعدكم﴾ هذا الرسول ﴿إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما﴾ وصرتم بعد الموت رميما ﴿إنكم مخرجون﴾ من قبوركم أحياء ﴿هيهات﴾ فيه ضمير مرتفع عائد إلى قوله ﴿إنكم مخرجون﴾ والمعنى هيهات هو أي بعد إخراجكم جدا حتى امتنع ﴿هيهات لما توعدون﴾ قال ابن عباس بعدا بعدا لما توعدون وقال الكلبي بعيد بعيد ما يعدكم ليوم البعث ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ أي ليس الحياة إلا الحياة التي نحن فيها القريبة منا ﴿نموت ونحيا﴾ أي يموت قوم منا ويحيا قوم ولا نبعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء عن الكلبي وقيل يموت قوم ويولد قوم ﴿وما نحن بمبعوثين﴾ بعد ذلك ﴿إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا﴾ أي اختلق كذبا ﴿وما نحن له بمؤمنين﴾ أي بمصدقين فيما يقول ﴿قال رب انصرني بما كذبون﴾ تقدم بيانه ﴿قال﴾ أي قال الله سبحانه ﴿عما قليل﴾ أي عن قليل من الزمان والوقت يعني عند الموت لو عند نزول العذاب وما هاهنا مزيدة ﴿ليصبحن نادمين﴾ هذا وعيد لهم واللام للقسم.