الآيات 1-5

حم ﴿1﴾ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات في الموضعين على النصب والباقون ﴿آيات﴾ على الرفع فيهما.

الحجة:

قال أبو علي قوله ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات﴾ جاز الرفع في قوله ﴿آيات﴾ من وجهين (أحدهما) العطف على موضع إن وما عملت فيه فإنه رفع بالابتداء فيحتمل الرفع فيه على الموضع (والآخر) أن يكون مستأنفا ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة فيكون قوله ﴿آيات﴾ على هذا مرتفعا بالظرف فهذا وجه من رفع آيات في الموضعين قال أبو الحسن ﴿من دابة آيات﴾ قراءة الناس بالرفع وهي أجود وبها نقرأ لأنه قد صار على كلام آخر نحو إن في الدار زيدا وفي البيت عمرو لأنك إنما تعطف الكلام كله على الكلام كله قال وقد قرىء بالنصب وهو عربي انتهت الحكاية عنه وأما قوله ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ إلى آخره آيات فإنك إن تركت الكلام على ظاهره فإن فيه عطفا على عاملين أحد العاملين الجار الذي هو في من قوله ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة﴾ والعامل الآخر إن نصبت آيات وإن رفعت فالعامل المعطوف عليه الابتداء أو الظرف ووجه قراءة من قرأ آيات بالنصب أنه لم يحمل على موضع إن كما حمل من ورفع آيات في الموضعين أو قطعه واستأنف ولكن حمل على لفظ أن دون موضعها فحمل آيات في الموضعين على نصب إن في قوله ﴿إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين﴾ فإن قلت إنه يعرض في هذه القراءة العطف على عاملين وذلك في قوله واختلاف الليل والنهار آيات وسيبويه وكثير من النحويين لا يجيزونه قيل يجوز أن يقدر في قوله واختلاف الليل والنهار آيات وإن كانت محذوفة من اللفظ وذلك أن ذكره قد تقدم في قوله ﴿إن في السماوات﴾ وقوله ﴿وفي خلقكم﴾ فلما تقدم ذكر الجار في هذين قدر فيه الإثبات في اللفظ وإن كان محذوفا منه كما قدر سيبويه في قوله:

أكل امرء تحسبين امرءا

ونار تأجج بالليل نارا

أن كل في حكم الملفوظ به واستغني عن إظهاره بتقدم ذكره ومما يؤكد هذه القراءة في أن آيات محمولة على أن ما ذكر عن أبي أنه قرأ في المواضع الثلاثة لآيات فدخول اللامات تدل على أن الكلام محمول على أن وإذا كان محمولا عليها حسن النصب وصار كل موضع من ذلك كان أن مذكورة فيه بدلالة دخول اللام لأن هذه اللام إنما تدخل على خبر إن أو على اسمها ومما يجوز أن يتأول على ما ذكرنا قول الفرزدق:

وباشر راعيها الصلا بلبانه

وكفيه حر النار ما يتحرف

فهذا إن حملت الكلام على ظاهره كان عطفا على عاملين على الفعل والباء إن قدرت أن الباء ملفوظ بها لتقدم ذكرها صارت في حكم الثبات في اللفظ وإذا صار كذلك كان العطف على عامل واحد وهو الفعل دون الجار وكذلك قول الآخر:

أوصيت من برة قلبا حرا

بالكلب خيرا والحماة شرا

فإن قدرت الجار في حكم المذكور لدلالة المتقدم عليه لم يكن عطفا على عاملين كما لم يكن قوله واختلاف الليل والنهار لآيات كذلك وقد يخرج قوله واختلاف الليل والنهار آيات من أن يكون عطفا على عاملين من وجه آخر وهو أن تقدر قوله ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ على في المتقدم ذكرها وتجعل ﴿آيات﴾ متكررة كررتها لما تراخى الكلام وطال كما قال بعض شيوخنا في قوله تعالى أ لم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم أن أنهي الأولى كررت وكما جاء فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به لما تراخى عن قوله ولما جاءهم كتاب من عند الله وهذا النحو في كلامهم غير ضيق.

المعنى:

﴿حم﴾ قد بينا ما قيل فيه وأجود الأقوال إنه اسم للسورة قال علي بن عيسى وفي تسمية السورة بحم دلالة على أن هذا القرآن المعجز كله من حروف المعجم لأنه سمي به ليدل عليه بأوصافه ومن أوصافه أنه معجز وأنه مفصل قد فصلت كل سورة من أختها وأنه هدى ونور فكأنه قيل هذا اسمه الدال عليه بأوصافه ﴿تنزيل الكتاب من الله﴾ أضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأنه وتفخيم قدره بإضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلها وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا فقد يقول القائل اللهم اغفر لي اللهم ارحمني اللهم عافني اللهم وسع علي في رزقي فيأتي بما يؤذن أن تعظيمه لربه منعقد بكل ما يدعو به وقوله ﴿من الله﴾ يدل على أن ابتداءه من الله تعالى ﴿العزيز﴾ أي القادر الذي لا يغالب ﴿الحكيم﴾ العالم الذي أفعاله كلها حكمة وصواب ﴿إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين﴾ الذين يصدقون بالله وبأنبيائه لأنهم المنتفعون بالآيات وهي الدلالات والحجج الدالة على أن لهما مدبرا صانعا قادرا عالما ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات﴾ معناه وفي خلقه إياكم بما فيكم من بدائع الصنعة وعجائب الخلقة وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبتدأ خلقكم في بطون الأمهات إلى انقضاء الآجال وفي خلق ما يفرق على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها والمقاصد المطلوبة منها دلالات واضحات على ما ذكرناه ﴿لقوم يوقنون﴾ أي يطلبون علم اليقين بالتدبر والتفكر ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئها على وتيرة واحدة وقيل معناه وفي اختلاف حالهما من الطول والقصر وقيل اختلافهما في أن أحدهما نور والآخر ظلمة ﴿وما أنزل الله من السماء من رزق﴾ أراد به المطر الذي ينبت به النبات الذي هو رزق الخلائق فسماه رزقا لأنه سبب الرزق ﴿فأحيا به الأرض بعد موتها﴾ أي فأحيا بذلك المطر الأرض بعد يبسها وجفافها ﴿وتصريف الرياح﴾ أي وفي تصريف الرياح يجعلها مرة جنوبا وأخرى شمالا ومرة صبا وأخرى دبورا عن الحسن وقيل يجعلها تارة رحمة وتارة عذابا عن قتادة ﴿آيات لقوم يعقلون﴾ وجوه الأدلة ويتدبرونها فيعلمون أن لهذه الأشياء مدبرا حكيما قادرا عليما حيا غنيا قديما لا يشبهه شيء.