الآيات 111-115

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿111﴾ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴿112﴾ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿113﴾ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿114﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿115﴾

القراءة:

قرأ عباس بن الفضل عن أبي عمرو والخوف بالنصب والباقون بالجر وفي الشواذ قراءة الأعرج وابن يعمر وابن إسحاق وعمرو بن نعيم بن ميسرة لما تصف ألسنتكم الكذب بالجر وقراءة مسلم بن محارب الكذب.

الحجة:

من قرأ والخوف بالنصب فإنه حمله على الإذاقة والخوف لا يذاق على الحقيقة فحمله على اللباس أولى وقوله الكذب بالجر يكون على البدل من ما تصف وأما الكذب فهو وصف الألسنة وهو جمع كاذب أو كذوب.

اللغة:

الأنعم جمع نعمة فهو مثل شدة وأشد وقيل أن واحدها نعم فهو كغصن وأغصن وقيل واحدها نعماء فيكون كبأساء وأبؤس وقوله ﴿أذاقها الله﴾ استعارة تقول العرب اركب هذا الفرس وذقه أي اختبره قال الشماخ:

فذاق فأعطته من اللين جانبا

كفى ولها أن يغرق السهم حاجز يصف قوسا وقال الآخر:

وإن الله ذاق حلوم قيس

فلما رآء خفتها قلاها.

الإعراب:

﴿يوم تأتي﴾ منصوب على أحد شيئين إما على معنى أن ربك لغفور رحيم يوم تأتي وإما أن يكون على معنى العظة والتذكير أي اذكر يوم تأتي عن الزجاج.

المعنى:

﴿يوم تأتي كل نفس﴾ أراد به يوم القيامة ﴿تجادل عن نفسها﴾ أي تخاصم الملائكة عن نفسها وتحتج بما ليس فيه حجة وتقول والله ربنا ما كنا مشركين ويقول أتباعهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار ويحتمل أن يكون المراد أنها تحتج عن نفسها بما تقدر به إزالة العقاب عنها ﴿وتوفى كل نفس ما عملت﴾ أي جزاء ما عملت من خير وشر ﴿وهم لا يظلمون﴾ في ذلك ﴿وضرب الله مثلا قرية﴾ أي مثل قرية ﴿كانت آمنة﴾ أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ﴿مطمئنة﴾ قارة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ﴿يأتيها رزقها رغدا من كل مكان﴾ أي يحمل إليها الرزق الواسع من كل موضع ومن كل بلد كما قال سبحانه يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ أي فكفر أهل تلك القرية بأنعم الله ولم يؤدوا شكرها ﴿فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾ أي فأخذهم الله بالجوع والخوف بصنيعهم وسوء فعالهم وسمي أثر الجوع والخوف لباسا لأن أثر الجوع والهزال يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس وقيل لأنهم شملهم الجوع والخوف كما يشمل اللباس والبدن وقيل إن هذه القرية هي مكة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم والقراد ثم يؤكل وهم مع ذلك خائفون وجلون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه يغيرون عليهم قوافلهم وذلك حين دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف وقيل إنها قرية كانت قبل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعث الله إليهم نبيا فكفروا بذلك النبي وقتلوه فعذبهم الله بعذاب الاستئصال ﴿ولقد جاءهم رسول منهم﴾ يعني أهل مكة بعث الله عليهم رسولا من صميمهم ليتبعوه لا من غيرهم ﴿فكذبوه﴾ وجحدوا نبوته ﴿فأخذهم العذاب وهم ظالمون﴾ أي في حال كونهم ظالمين وعذابهم ما حل بهم من الجوع والخوف المذكورين في الآية المتقدمة وما نالهم يوم بدر وغيره من القتل ومن قال إن المراد بالقرية غير مكة قال هذه صورة القرية المذكورة ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال ﴿فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا﴾ صيغته صيغة الأمر والمراد به الإباحة أي كلوا مما أعطاكم الله من الغنائم وأحلها لكم ﴿واشكروا نعمة الله﴾ فيما خلقه لكم وأحله لكم ﴿إن كنتم إياه تعبدون﴾ وهذه الآية مع التي بعدها مفسرة في سورة البقرة.