الآيات 26-30

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ﴿26﴾ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿27﴾ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿28﴾ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿29﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة ابن عباس وعكرمة وأبي عامر أفكهم بفتح الألف والفاء والكاف وقراءة عبد الله بن الزبير آفكهم وقراءة ابن عياض أفكهم بالتشديد.

الحجة:

قوله إفكهم معناه صرفهم وثناهم قال:

إن يك عن أحسن المروءة مأفوكا

ففي آخرين قد أفكوا

وآفكهم أفعلهم منه أي أصارهم إلى الإفك ويجوز أن يكون فاعلهم من ذلك مثل خادعهم وأما إفكهم ففعلهم وذلك لتكثيره ذلك الفعل بهم وروي عن قطرب أن ابن عباس قرأ آفكهم أي صارفهم.

اللغة:

التمكين إعطاء ما يتمكن به من الفعل وتدخل فيه القدرة والآلة وسائر ما يحتاج إليه الفاعل وقيل التمكين إزالة الموانع وذلك داخل في الأول لأنه كما يحتاج الفاعل في الفعل إلى الآلات يحتاج إلى زوال الموانع فإذا أزيحت عنه العلل كلها فقد مكن والقربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة أو نسك والجمع قرابين.

الإعراب:

﴿فيما إن مكناكم فيه﴾ إن هنا بمعنى ما وإن في النفي مع ما الموصولة بمعنى الذي أحسن في اللفظ من ما ألا ترى أنك لو قلت رغبت فيما ما رغبت فيه لكان أحسن منه أن تقول رغبت فيما أن رغبت فيه لاختلاف اللفظين.

المعنى:

ثم خوف سبحانه كفار مكة وذكر فضل عاد بالأجسام والقوة عليهم فقال ﴿ولقد مكناهم فيما إن مكناكم﴾ أي في الذي ما مكناكم ﴿فيه﴾ والمعنى في الشيء الذي لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وبسطة الأجسام وطول العمر وكثرة الأموال عن ابن عباس وقتادة وقيل معناه فيما مكناكم فيه وإن مزيدة والمعنى مكناهم من الطاعات وجعلناهم قادرين متمكنين بنصب الأدلة على التوحيد والتمكين من النظر فيها والترغيب والترهيب وإزاحة العلل في جميع ذلك ﴿وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة﴾ ثم أخبر سبحانه عن أولئك أنهم أعرضوا عن قبول الحجج والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله من الحواس الصحيحة التي بها تدرك الأدلة ﴿فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء﴾ أي لم ينفعهم جميع ذلك لأنهم لم يعتبروا ذلك ولا استعملوا أبصارهم وأفئدتهم في النظر والتدبر ﴿إذ كانوا يجحدون بآيات الله﴾ وأدلته ﴿وحاق بهم﴾ أي حل بهم جزاء ﴿ما كانوا به يستهزءؤن ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى﴾ معناه ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم إلى الشام ﴿وصرفنا الآيات﴾ تصريف الآيات تصييرها تارة في الإعجاز وتارة في الإهلاك وتارة في التذكير بالنعم وتارة في التذكير بالنقم وتارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم وتارة في وصف الفجار ليجتنب مثل فعلهم ﴿لعلهم يرجعون﴾ أي لكي يرجعوا عن الكفر ﴿فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة﴾ أي فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم آلهة وزعموا أنهم يعبدونهم تقربا إلى الله تعالى ثم لم ينصروهم لأن هذا استفهام إنكار ﴿بل ضلوا عنهم﴾ أي ضلت الآلهة وقت الحاجة إليها فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ﴿وذلك إفكهم﴾ أي اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم وهو قوله ﴿وما كانوا يفترون﴾ أي يكذبون من أنها آلهة ثم بين سبحانه أن في الجن مؤمنين وكافرين كما في الإنس فقال ﴿وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن﴾ معناه واذكر يا محمد إذ وجهنا إليك جماعة من الجن تستمع القرآن وقيل معناه صرفناهم إليك عن بلادهم بالتوفيق والألطاف حتى أتوك وقيل صرفناهم إليك عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه فقالوا ما هذا الذي حدث في السماء إلا من أجل شيء قد حدث في الأرض فضربوا في الأرض حتى وقفوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن نخلة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعلى هذا فيكون الرمي بالشهب لطفا للجن ﴿فلما حضروه﴾ أي حضروا القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿قالوا أنصتوا﴾ أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لنستمع إلى قراءته فلا يحول بيننا وبين القرآن شيء ﴿فلما قضى﴾ أي فرغ من تلاوته ﴿ولوا إلى قومهم﴾ أي انصرفوا إلى قومهم ﴿منذرين﴾ أي محذرين إياهم عذاب الله إن لم يؤمنوا ﴿قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى﴾ يعنون القرآن ﴿مصدقا لما بين يديه﴾ أي لما تقدمه من الكتب ﴿يهدي إلى الحق﴾ أي يرشد إلى دين الحق ويدل عليه ويدعو إليه ﴿وإلى طريق مستقيم﴾ يؤدي بسالكه إلى الجنة.

القصة:

عن الزهري قال لما توفي أبو طالب (عليه السلام) اشتد البلاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يأووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم إخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو فعرض عليهم نفسه فقال أحدهم أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط وقال الآخر أعجز على الله أن يرسل غيرك وقال الآخر والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدا فلئن كنت رسولا كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن يرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك بعد وتهزئوا به وأفشوا في قومه ما راجعوه به فقعدوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه فخلص منهم وهما يسيلان دما إلى حائط من حوائطهم واستظل في ظل نخلة منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس معه عنب وهو نصراني من أهل نينوى فلما جاءه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أي أرض أنت قال من أهل نينوى قال من مدينة العبد الصالح يونس بن متى فقال له عداس وما يدريك من يونس بن متى قال أنا رسول الله والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس خر عداس ساجدا لله ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلما أتاهما قالا ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت ذلك بأحد منا قال هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكا وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة حتى إذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين وقيل من اليمن فوجدوه يصلي صلاة الغداة ويتلو القرآن فاستمعوا له وهذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة وقال آخرون أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله إليه نفرا من الجن من نينوى فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فاتبعه عبد الله بن مسعود قال عبد الله ولم يحضر معه أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ودخل نبي الله شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حتى حالت بيني وبينه حتى لم أسمع صوته ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط وفرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الفجر فانطلق فرز ثم قال هل رأيت شيئا فقلت نعم رأيت رجالا سودا مستثفري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين وروى علقمة عن عبد الله قال لم أكن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن ووددت أني كنت معه وروي عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسلا إلى قومهم قال زر بن حبيش كانوا تسعة نفر منهم زوبعة وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال لما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجن كانوا أحسن جوابا منكم لما قرأت عليهم فبأي آلاء ربكم تكذبان قالوا لا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب.