الآيات 91-94

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴿91﴾ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿92﴾ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿93﴾ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿94﴾

اللغة:

التوكيد التشديد وأوكد عقدك أي شده وهي لغة أهل الحجاز وأهل نجد يقولون أكدت تأكيدا والأنكاث الأنقاض واحدها نكث والنكث المصدر وهذا قول لا نكثة فيه أي لا خلف وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث حبلا كان أو غزلا والحبل منتكث أي منتقض ومنه سموا من تابع الإمام طائعا ثم خرج عليه ناكثا لأنه نقض ما وكد على نفسه بالأيمان والعهود كفعل الناكثة غزلها والدخل ما أدخل في الشيء على فساد وقيل الدخل الدغل والخديعة وإنما قيل الدخل لأن داخل القلب على ترك الوفاء والظاهر على الوفاء قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل وكل ما دخله عيب فهو مدخول وأربى أفعل من الربا وهو الزيادة ومنه الربوة والربا في المال وأربى فلان للزيادة التي تريدها على عزيمة في رأس ماله قال الشاعر:

وأسمر خطي كان كعوبه

نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر.

الإعراب:

أنكاثا منصوب لأنه في معنى المصدر دخلا بينكم منصوب لأنه مفعول له والمعنى تتخذون أيمانكم للدخل والغش وقوله ﴿أن تكون أمة﴾ على تقدير بأن تكون أمة وهي أربى موضع أربى رفع مبتدأ وخبر وكلاهما في محل النصب بأنه خبر كان وقال الفراء: إن موضع أربى نصب وهي عماد وهذا لا يجوز لأن الفصل الذي يسميه الكوفيون عمادا لا يدخل بين النكرة وخبره وقد أخطأ أيضا بأن شبه ذلك بقوله ﴿تجدوه عند الله هو خيرا﴾ فإن الهاء في تجدوه معرفة وهاهنا أمة نكرة فلا يشبه ذلك ويجوز أن تكون الجملة صفة لأمة ولا يحتاج تكون إلى خبر لأنه بمعنى يحدث ويقع وأمة فاعله وتقديره كراهة أن تكون فهو مفعول له ولئلا يكون عند الكوفيين.

المعنى:

لما تقدم ذكر الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن المنكر والعدوان عقبه سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيمان فقال ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾ قال ابن عباس الوعد من العهد وقال المفسرون العهد الذي يجب الوفاء به والوعد هو الذي يحسن فعله وعاهد الله ليفعلنه فإنه يصير واجبا عليه ﴿ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها﴾ هذا نهي منه سبحانه عن نكث الأيمان وهو أن ينقضها بمخالفة موجبها وارتكاب ما يخالف عقدها وقوله ﴿بعد توكيدها﴾ أي بعد عقدها وإبرامها وتوثيقها باسم الله تعالى وقيل بعد تشديدها وتغليظها بالعزم والعقد على اليمين بخلاف لغو اليمين عن أبي مسلم ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾ أي حسيبا فيما عاهدتموه عليه وقيل كفيلا بالوفاء وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف وقيل أنه قولهم الله علي كفيل أو وكيل وقيل أراد به أن الكفيل بالشيء يكون حفيظا له والإنسان إنما يؤكد الأمر على نفسه بذكر اسم الله تعالى على جهة اليمين ليحفظ سبحانه ذلك الأمر ﴿إن الله يعلم ما تفعلون﴾ من نقض العهد والوفاء به فإياكم أن تلقوه وقد نقضتم وهذه الآية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الإسلام فقال سبحانه للمسلمين الذين بايعوه لا يحملنكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة فإن الله حافظكم أي أثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول وأكدتموه بالأيمان وقيل نزلت في قوم خالفوا قوما فجاءهم قوم وقالوا نحن أكثر منهم وأعز وأقوى فانقضوا ذلك العهد وخالفونا ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة﴾ أي لا تكونوا كالمرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفتل للغزل وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة وكانت تسمى خرقاء مكة عن الكلبي وقيل أنه مثل ضربه الله تعالى شبه فيه حال ناقض العهد بمن كان كذلك ﴿أنكاثا﴾ جمع نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية ﴿تتخذون أيمانكم دخلا بينكم﴾ أي دخلا وخيانة ومكرا وذلك أنهم كانوا يخلفون في عهودهم ويضمرون الخيانة وكان الناس يسكنون إلى عهدهم ثم ينقضون العهد فقد اتخذوا أيمانهم مكرا وخيانة ﴿أن تكون أمة هي أربى من أمة﴾ أي لا تنقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم وأمة أعلى من أمة ولأجل ذلك وتقديره ولا تنكثوا أيمانكم متخذيها دغلا وغدرا وخديعة لمداراتكم قوما هم أكثر عددا ممن حلفتم له ولقلتكم وكثرتهم بل عليكم الوفاء بما حلفتم والحفظ لما عاهدتم عليه ﴿إنما يبلوكم الله به﴾ أي إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء والهاء في به عائدة على الأمر وتحقيقه أنه يعاملكم معاملة المختبر ليقع الجزاء بحسب العمل ﴿و ليبينن﴾ أي وليفصلن ﴿لكم يوم القيامة ما كنتم فيه﴾ أي في صحته ﴿تختلفون﴾ وليظهرن لكم حكمه حتى يعرف الحق من الباطل ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ أي لجعلكم مهتدين يعني به مشيئة القدرة كما قال ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴿ولكن يضل من يشاء﴾ بالخذلان أو بالحكم عليه بالضلال ﴿ويهدي من يشاء﴾ بالتوفيق وبالحكم عليه بالهداية وقد ذكرنا معاني الضلال والهدى في سورة البقرة ﴿ولتسئلن عما كنتم تعملون﴾ من الطاعات والمعاصي فستجازون على كل منهما بقدره ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم﴾ نهى سبحانه عن الحلف على أمر يكون باطنه بخلاف ظاهره فيضمر خلاف ما يظهر أي يضمر الخلف والحنث فيه ﴿فتزل قدم بعد ثبوتها﴾ هذا مثل ضربه الله تعالى ومعناه فتضلوا عن الرشد بعد أن تكونوا على هدى يقال زل قدم فلان في أمر كذا إذا عدل عن الصواب وقيل معناه فيسخط الله عليكم بعد رضاه عنكم لأن ثبات القدم تكون برضاء الله سبحانه وزلة القدم تكون بسخطه وقيل أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على نصرة الإسلام وأهله فنهوا عن نقض ذلك ﴿وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله﴾ أي تذوقوا العذاب بما منعتم الناس عن اتباع دين الله ﴿ولكم﴾ مع ذلك ﴿عذاب عظيم﴾ يريد عذاب الآخرة وروي عن سلمان الفارسي ره أنه قال تهلك هذه الأمة بنقض مواثيقها وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نزلت هذه الآيات في ولاية علي (عليه السلام) وما كان من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سلموا على علي بإمرة المؤمنين.

النظم:

وجه اتصال قوله ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ الآية بما قبله أنه أخبر في الآية المتقدمة أنه يبين لهم في الآخرة الحق من الباطل والمحق من المبطل بيان ضرورة فأخبر عقيب ذلك أنه يقدر على ذلك أيضا في الدنيا ولكنه لم يفعل ذلك ليستحق الناس الثواب بأعمالهم.