الآيات 66-70

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴿66﴾ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿67﴾ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴿68﴾ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿69﴾ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿70﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وسهل نسقيكم بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين والباقون ﴿نسقيكم﴾ بضمها في الموضعين وقرأ أبو جعفر في المؤمنين تسقيكم بالتاء.

الحجة:

قيل بين سقيت وأسقيت فرق وهو أن سقيته معناه ناولته ليشرب وأسقيته معناه جعلت له ماء يشربه وقيل سقيته ماء وأسقيته سألت الله أن يسقيه وعليه بيت ذي الرمة:

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه

وقيل إذا سقاه مرة يقول سقيته وإذا سقاه دائما يقال أسقيته عن أبي عبيدة وقيل هما بمعنى واحد واستدل ببيت لبيد:

سقى قومي بني مجد وأسقي

نميرا والقبائل من هلال فإنه أتى باللغتين.

اللغة:

العبرة والعظة من النظائر وهو ما يعتبر به والفرث الثفل الذي ينزل إلى الكرش وساغ الطعام في الحلق وسوغته وأسغته.

السكر في اللغة على أربعة أوجه (الأول) ما أسكر من الشراب (والثاني) ما طعم من الطعام قال الشاعر:

جعلت عيب الأكرمين سكرا أي أعلت ذمهم طعما لك (والثالث) السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر:

وليست بطلق ولا ساكرة ويقال سكرت الريح سكنت قال:

وجعلت عين الحرور تسكر (والرابع) المصدر من قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيير في قوله سكرت أبصارنا والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة والرذل الدون الرديء وكذلك الرذال يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلته أنا.

الإعراب:

الهاء في بطونه إلى ما ذا يعود اختلف فيه فقيل إن الأنعام جمع والجمع يذكر ويؤنث فجاء هاهنا على لغة من يذكر وجاء في سورة المؤمنين على لغة من يؤنث وقيل إنه رد على واحد الأنعام وأنشد للراجز:

وطاب ألبان اللقاح فبرد رده إلى اللبن عن الفراء وقيل إن الأنعام والنعم سواء فحمل على المعنى كما قال الصلتان العبدي:

إن السماحة والمروءة ضمنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح فكأنه قال شيئان ضمنا وقال الأعشى:

فإن تعهديني ولي لمة

فإن الحوادث أودي بها حمله على الحدثان ويجوز أن يكون التقدير نسقيكم مما في بطون المذكور وقيل إن من يدل على التبعيض فكأنه قال نسقيكم مما في بطون بعض الأنعام لأنه ليس لجميعها لبن وقوله ﴿تتخذون منه﴾ الضمير في منه إلى ما ذا يعود فيه وجهان (أحدها) أنه يعود إلى المذكور (والثاني) أنه يعود إلى معنى الثمرات لأن الثمرات والثمر سواء وكذا الهاء في قوله ﴿فيه شفاء للناس﴾ قيل يعود إلى الشراب وهو العسل وقيل يعود إلى القرآن فإذا عاد الضمير إلى الشراب ارتفع شفاء بالظرف على المذهبين وتقديره شراب ثابت فيه شفاء وإذا عاد الضمير إلى القرآن ففي رفع شفاء خلاف فإن الظرف لم يجر على مذكور قبله، ﴿لكيلا يعلم بعد علم شيئا﴾ إن نصبت شيئا بعلم وهو مذهب سيبويه كنت قد أعملت الثاني وأضمرت المفعول في يعلم على شريطة التفسير وإن أعملت يعلم وهو مذهب الفراء أضمرت لعلم مفعولا وفصلت بين المعمول والعامل فجمعت بين مجازين بخلاف مذهب سيبويه.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد وعجائب الصنعة وبدائع الحكمة بقوله ﴿و إن لكم في الأنعام﴾ يعني الإبل والبقر والغنم ﴿لعبرة﴾ أي لعظة واعتبارا ودلالة على قدرة الله تعالى ﴿نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا﴾ وروى الكلبي عن ابن عباس قال إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما ووسطه لبنا فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو فذلك قوله ﴿من بين فرث ودم لبنا خالصا﴾ لا يشوبه الدم ولا الفرث ﴿سائغا للشاربين﴾ أي جائزا في حلوقهم والكبد مسلطة على هذه الأصناف فيقسمها على الوجه الذي اقتضاه التدبير الإلهي بين سبحانه لمن ينكر البعث أن من قدر على إخراج لبن أبيض سائغ من بين الفرث والدم من غير أن يختلط بهما قادر على إخراج الموتى من الأرض من غير أن يختلط شيء من أبدانهم بأبدان غيرهم ثم قال ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا﴾ قيل معناه ولكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات النخيل والأعناب عن الحسن وقيل معناه من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا والعرب تضمر ما الموصولة كثيرا قال سبحانه وإذا رأيت ثم رأيت نعيما أي ما ثم وقيل إن تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه سكرا ﴿و رزقا حسنا﴾ فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه والأعناب عطف على الثمرات أي ومن الأعناب شيء تتخذون سكرا وهو كل ما يسكر من الشراب كالخمر.

والرزق الحسن ما أحل منهما كالخل والزبيب والرب والرطب والتمر عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم وروى الحاكم في صحيحه بالإسناد عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال السكر ما حرم من ثمرها والرزق الحسن ما أحل من ثمرها قال قتادة نزلت الآية قبل تحريم الخمر ونزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة قال أبو مسلم ولا حاجة إلى ذلك سواء كان الخمر حراما أم لم يكن لأنه تعالى خاطب المشركين وعدد إنعامه عليهم بهذه الثمرات والخمر من أشربتهم فكانت نعمة عليهم وقيل إن المراد بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة مما يحل والرزق الحسن ما يؤكل والحسن اللذيذ عن الشعبي والجبائي فالمعنى تتخذون منه أصنافا من الأشربة والأطعمة وقد أخطأ من تعلق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنه سبحانه إنما أخبر عن فعل كانوا يتعاطونه فأي رخصة في هذا اللفظ والوجه فيه أنه سبحانه أخبر أنه خلق هذه الثمار لينتفعوا بها فاتخذوا منها ما هو محرم عليهم ولا فرق بين قوله هذا وبين قوله تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ﴿إن في ذلك لآية﴾ أي دلالة ظاهرة ﴿لقوم يعقلون﴾ عن الله تعالى ذلك ويتفكرون فيه بين الله سبحانه بذلك أنكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به فكذلك الله يستلخص ما تبدد من الميت مما هو مختلط به من التراب ﴿و أوحى ربك إلى النحل﴾ أي ألهمها إلهاما عن الحسن وابن عباس ومجاهد وقيل جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله عن غيرها عن الحسن قال أبو عبيدة الوحي في كلام العرب على وجوه منها وحي النبوة ومنها الإلهام ومنها الإشارة ومنها الكتاب ومنها الإسرار فوحي النبوة في قوله أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه والإلهام في قوله ﴿و أوحى ربك إلى النحل﴾ و﴿أوحينا إلى أم موسى﴾ والإشارة في قوله فأوحى إليهم أن سبحوا قال مجاهد معناه أشار إليهم وقال الضحاك كتب لهم والإسرار في قوله يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وأصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار والإخفاء وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال لا وحي إلا القرآن فإن المراد به أن القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) دون أن يكون أنكر ما قلناه ويقال أوحي له وأوحي إليه قال العجاج:

أوحي لها القرار فاستقرت

والمعنى أن الله تعالى ألهم النحل اتخاذ المنازل والمساكن والأوكار والبيوت في الجبال والشجر وغير ذلك وتقديره ﴿أن اتخذي من الجبال بيوتا﴾ للعسل ولا يقدر على مثلها أحد ﴿ومن الشجر ومما يعرشون﴾ أي ومن الكرم لأنه الذي يعرش ويتخذ منه العريش وفيه لغتان يعرشون ويعرشون بضم الراء وكسرها وقد قرىء بهما وقيل معنى يعرشون يبنون والعرش سقف البيت عن الكلبي والمعنى ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسل فيها ولو لا إلهام الله إياها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها وإنما أتى بلفظ الأمر وإن كانت النحل لا تعقل الأمر ولا تكون مأمورة لأنه لما أتى بلفظ الوحي أجري عليه لفظ الأمر اتساعا ﴿ثم كلي من كل الثمرات﴾ أي من أنواع الثمرات من أي ثمرة شئت ﴿فاسلكي سبل ربك﴾ أي فادخلي سبل ربك التي جعلها الله لك ﴿ذللا﴾ أي مذللة موطأة للسلوك واسعة يمكن سلوكها فيكون قوله ﴿ذللا﴾ صفة للسبل وهي منصوبة على الحال وهو قول مجاهد وقيل ذللا أي مطيعة لله منقادة مسخرة ويكون من صفة النحل عن قتادة ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه﴾ وهو العسل فإن ألوانه مختلفة لأن منه ما هو شديد البياض ومنه ما هو أصفر ومنه ما يضرب إلى الحمرة وذلك أن النحل تتناول ألوانا مختلفة من النبات والزهر فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم وإنما قال سبحانه ﴿من بطونها﴾ ولم يقل من فيها لئلا يظن أنها تلقيه من فيها ولم يخرج من بطنها ﴿فيه شفاء للناس﴾ من الأدواء عن قتادة وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل وقيل معناه فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه عن السدي والحسن وروي عن مجاهد أن الهاء في فيه راجعة إلى القرآن أي القرآن فيه شفاء للناس يعني ما فيه من الحلال والحرام والفتيا والأحكام والأول قول أكثر المفسرين وهو الأقوى إذ لم يسبق للقرآن ذكر وفي النحل والعسل وجوه من الاعتبار منها اختصاصه بخروج العسل من فيه ومنها جعل الشفاء من موضع السم فإن النحل يلسع ومنها ما ركب الله من البدائع والعجائب فيه وفي طباعه ومن أعجبها أن جعل سبحانه لكل فئة يعسوبا هو أميرها يقدمها ويحامي عنها ويدبر أمرها ويسوسها وهي تتبعه وتقتفي أثره ومتى فقدته انحل نظامها وزال قوامها وتفرقت شذر مذر وإلى هذا المعنى فيما قال أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله أنا يعسوب المؤمنين ﴿إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون﴾ معناه إن فيما ذكرناه من بدائع صنع الله تعالى دلالة بينة لمن تفكر فيه ثم بين نعمته علينا في خلقنا وأخرجنا من العدم إلى الوجود فقال ﴿والله خلقكم﴾ أي أوجدكم وأنعم عليكم بضروب النعم الدينية والدنيوية ﴿ثم يتوفاكم﴾ ويقبضكم أي يميتكم ﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر﴾ أي أدون العمر وأوضعه أي يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم والخرف فيظهر النقصان في جوارحه وحواسه وعقله ورووا عن علي (عليه السلام) أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وروي في مثل ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعن قتادة تسعون سنة ﴿لكيلا يعلم بعد علم شيئا﴾ أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علمه لأجل الكبر فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه وقيل ليقل علمه بخلاف ما كان عليه في حال شبابه ﴿إن الله عليم﴾ بمصالح عباده ﴿قدير﴾ على ما يشاء من تدبيرهم وتقدير أحوالهم.