الآيات 45-50

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿45﴾ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴿46﴾ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿47﴾ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴿48﴾ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿49﴾ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴿50﴾

القراءة:

قرأ أو لم تروا بالتاء أهل الكوفة غير عاصم والباقون بالياء وكذلك في العنكبوت وقرأ أهل البصرة تتفيؤا بالتاء والباقون بالياء.

الحجة:

حجة الياء أن ما قبله غيبة وهو قوله ﴿أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم﴾ ﴿أو يأخذهم﴾ ﴿أولم يروا﴾ ومن قرأ بالتاء أراد جميع الناس والتأنيث والتذكير في قوله ﴿يتفيؤا ظلاله﴾ حسنان وقد تقدم ذكر ذلك في عدة مواضع.

اللغة:

التخوف التنقص وهو أن يأخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد وتلك حالة يخاف معها الفناء ويتخوف الهلاك يقال تخوفه الدهر قال الشاعر:

تخوف السير منها تامكا قردا

كما تخوف عود النبعة السفن أي ينقص السير سنامها بعد تموكه وقال آخر:

تخوف عدوهم مالي وأهدى

سلاسل في الحلوق لها صليل قال الفراء تحوفته وتخوفته بالحاء والخاء إذا تنقصته من حافاته قال المبرد لا يقال تحوفته وإنما يقال تحيفته بالياء والتفيؤ التفعل من الفيء يقال فاء الفيء يفيء إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه ومنه فيء المسلمين لما يعود عليهم وقتا بعد وقت من الخراج والغنائم ويعدى فاء بزيادة الهمزة نحو أفاء وبالتضعيف نحو فاء الظل وفيأه الله فتفيا والفيء ما نسخه ضوء الشمس والظل ما كان قائما لم تنسخه الشمس قال الشاعر:

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشي تذوق

فجعل الظل وقت الضحى لأن الشمس لم تنسخه في ذلك الوقت وجمع الفيء أفياء وفيوء قال:

أرى المال أفياء الضلال فتارة

يؤوب وأخرى يحبل المال حابلة وقال النابغة الجعدي:

فسلام الإله يغدو عليهم

وفيوء الفردوس ذات الظلال وإنما قال عن اليمين على التوحيد والشمائل على الجمع لأنه أراد باليمين الأيمان كما قال الشاعر:

بفي الشامتين الصخر إن كان هدني

رزية شبلي مخدر في الضراغم والمعنى بأفواه وقال آخر:

الواردون وتيم في ذري سبإ

قد عض أعناقهم جلد الجواميس والداخر الخاضع الصاغر قال:

فلم يبق إلا داخر في مخيس

ومنجحر في غير أرضك في جحر.

المعنى:

ثم أوعد سبحانه المشركين فقال ﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الإنكار ومعناه أي شيء أمن هؤلاء القوم الذين دبروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإطفاء نور الدين وإيذاء المؤمنين من ﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ من تحتهم عقوبة لهم كما خسف بقارون ﴿أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ قال ابن عباس يعني يوم بدر وذلك أنهم أهلكوا يوم بدر وما كانوا يقدرون ذلك ولا يتوقعونه ﴿أو يأخذهم في تقلبهم﴾ يعني أو أن يأخذهم العذاب في تصرفهم في أسفارهم وتجاراتهم وقيل يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلا ونهارا فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا عن مقاتل ﴿فما هم بمعجزين﴾ أي فليسوا بفائتين وما يريده الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه ﴿أو يأخذهم على تخوف﴾ قال أكثر المفسرين معناه على تنقص إما بقتل أو بموت أي بنقص من أطرافهم ونواحيهم فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي على جميعهم وقيل معناه في حال تخوفهم من العذاب أي يعذب أهل قرية ويخوف به أهل قرية أخرى فيتخوفون أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بالأولى عن الحسن وقيل معناه على تنقص من الأموال والأنفس بالبلايا والأسقام إن لم يعذبهم بعذاب الاستئصال لينبه غيرهم ويزجرهم عن الجبائي ﴿فإن ربكم لرءوف رحيم﴾ بكم ومن رأفته ورحمته بكم أنه أمهلكم لتتوبوا وترجعوا ولم يعاجلكم بالعقوبة ثم بين سبحانه دلائل قدرته فقال ﴿أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء﴾ معناه أ لم ينظروا هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى وكذبوا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى ما خلق الله من شيء له ظل من شجر وجبل وبناء وجسم قائم ﴿يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله﴾ أي يتميل ظلاله عن جانب اليمين وجانب الشمال وأضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال لأن الذي يعود إليه الضمير واحد يدل على الكثرة وهو قوله ما خلق الله ومعنى تفيؤ الظلال يمينا وشمالا أن الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة كان الظلال قدامك وإذا ارتفعت كان عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل عن الكلبي ومعنى سجود الظل لله دورانه من جانب إلى جانب لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير وهذه الآية كقوله ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ وقد مر تفسيره وقيل أن المراد بالظل هو الشخص بعينه ويدل على ذلك قول علقمة:

لما نزلنا رفعنا ظل أخبية

وفار للقوم باللحم المراجيل أ لا ترى أنهم لا ينصبون الظل وإنما ينصبون الأخبية ويقوي ذلك قول عمارة:

كأنهن الفتيات اللعس

كان في أظلالهن الشمس أي في أشخاصهن وقول الآخر:

يتبع أفياء الظلال عشية

على طرق كأنهن سيوف أي أفياء الشخوص فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية تأويل الأجسام التي عنها الظلال ﴿وهم داخرون﴾ أي أذلة صاغرون قد نبه الله بهذا على أن جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها بما لولاه لبطلت ولم يكن لها قوام طرفة عين فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذلة ثم قال سبحانه ﴿ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة﴾ أي يسجد لله جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض ومعنى من في قوله ﴿من دابة﴾ تبيين الصفة أي الذي هو دابة تدب على وجه الأرض ﴿والملائكة﴾ أي وتسجد له الملائكة وتخضع له بالعبادة وإنما خص الملائكة بالذكر تشريفا لهم ولأن اسم الدابة يقع على ما يدب ويمشي وهم أولو الأجنحة فصفة الطيران أغلب عليهم ﴿وهم لا يستكبرون﴾ عن عبادة الله تعالى وهذا من صفة الملائكة لأنه قال ﴿يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ وإنما قال ﴿من فوقهم﴾ لوجهين (أحدهما) أن المراد يخافون عقاب ربهم وأكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق (والآخر) أن الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال بمعنى أنه قادر على الكمال حسن أن يقال من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين وعلى هذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد قال ذلك مخافة الإجلال واختاره الزجاج فقال يخافون ربهم خوف معظمين مجلين ومثله في المعنى قوله ﴿وهو القاهر فوق عباده وقوله إخبارا عن فرعون ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ وذهب بعضهم إلى أن قوله ﴿من فوقهم﴾ من صفة الملائكة والمعنى أن الملائكة من فوق بني آدم وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم فلأن يخافه من دونهم أولى وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رءوسهم وقالوا ما عبدناك حق عبادتك أورده الكلبي في تفسيره.