الآيات 41-44

وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿41﴾ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿42﴾ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴿43﴾ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿44﴾

القراءة:

قرأ حفص نوحي بالنون وقد تقدم ذكره في سورة يوسف وروي عن علي (عليه السلام) لنثوينهم بالثاء والقراءة ﴿لنبوئنهم﴾ بالباء.

الحجة:

قال ابن جني نصب حسنة هاهنا أي نحسن إليهم إحسانا ووضع حسنة موضع الإحسان كأنه واحد من الحسن دال عليه ودل قوله ﴿لنبوئنهم﴾ على ذلك الفعل لأنه إذا أقرهم على الفعل بإطالة مدتهم فقد أحسن إليهم كما قال ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وذلك ضد ما يعمل بالعاصين الذين يصطلمهم بذنوبهم وجرائم أفعالهم.

النزول:

الآية الأولى نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكنهم الله بالمدينة وذكر أن صهيبا قال لأهل مكة أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم وإن كنت عليكم لم يضركم فخذوا مالي ودعوني فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال له أبو بكر ربح البيع يا صهيب ويروى أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء قال له خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا وما أخره لك أفضل ثم تلا هذه الآية.

المعنى:

﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا﴾ معناه والذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم فرارا بدينهم واتباعا لنبيهم في الله أي في سبيله لابتغاء مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون وعذبوهم بمكة وبخسوهم حقوقهم ﴿لنبوئنهم في الدنيا حسنة﴾ أي بلدة حسنة بدل أوطانهم وهي المدينة عن ابن عباس وقيل لنعطينهم حالة حسنة وهي النصر والفتح وقيل هي ما استولوا عليه من البلاد وفتح لهم من الولايات ﴿ولأجر الآخرة أكبر﴾ مما أعطيناهم في الدنيا ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي لو كان الكفار يعلمون ذلك وقيل معناه لو علم المؤمنون تفاصيل ما أعد الله لهم في الجنة لازدادوا سرورا وحرصا على التمسك بالدين ﴿الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ هذا وصف لهؤلاء المهاجرين أي صبروا في طاعة الله على أذى المشركين وفوضوا أمورهم إلى الله تعالى ثقة به ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ إلى الأمم الماضية ﴿إلا رجالا﴾ من البشر ﴿نوحي إليهم﴾ أي أوحينا إليهم كما أوحينا إليك وأرسلناهم إلى أممهم كما أرسلناك إلى أمتك وذلك أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبين سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلا من يشاهدونه ويخاطبونه ويفهمون عنه وأنه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك ﴿فاسألوا أهل الذكر﴾ فيه أقوال (أحدها) أن المعنى بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أكانوا مؤمنين أو كفارا وسمي العلم ذكرا لأن الذكر منعقد بالعلم فإن الذكر هو ضد السهو فهو بمنزلة السبب المؤدي إلى العلم في ذكر الدليل فحسن أن يقع موقعه وينبىء عن معناه إذا تعلق به هذا التعلق عن الرماني والزجاج والأزهري (وثانيها) أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب عن ابن عباس ومجاهد أي فاسألوا أهل التوراة والإنجيل ﴿إن كنتم لا تعلمون﴾ يخاطب مشركي مكة وذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم لأنهم كانوا يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لشدة عداوتهم له (وثالثها) أن المراد بهم أهل القرآن لأن الذكر هو القرآن عن ابن زيد ويقرب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال نحن أهل الذكر وقد سمى الله رسوله ذكرا في قوله ذكرا رسولا على أحد الوجهين وقوله ﴿بالبينات والزبر﴾ العامل فيه قوله ﴿أرسلنا﴾ والتقدير وما أرسلنا بالبينات والزبر أي بالبراهين والكتب إلا رجالا نوحي إليهم وقيل إن في الكلام إضمارا وحذفا والتقدير أرسلناهم بالبينات كما قال الأعشى:

وليس مجيرا أن أتى الحي خائف

ولا قائلا إلا هو المتعيبا أي أعني المتعيبا ونظير الأول قول الشاعر:

نبأتهم عذبوا بالنار جارتهم

وهل يعذب إلا الله بالنار ﴿وأنزلنا إليك الذكر﴾ يعني القرآن ﴿لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ فيه من الأحكام والشرائع والدلائل على توحيد الله ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ في ذلك فيعلموا أنه حق وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقوله أهل الجبر.

النظم:

قيل في اتصال الآية الأولى بما قبلها وجوه (أحدها) أنها اتصلت بقوله ﴿ليبين لهم الذي يختلفون فيه﴾ فيكون المعنى ليبين لهم وليعلم الكافرين كونهم كاذبين وليجزي المؤمنين المهاجرين على ما فعلوه من الهجرة وقيل لما تقدم ذكر الكفار وما أعد لهم من الدمار ودخول النار عقبه بذكر المؤمنين المهاجرين والأنصار تحريضا لغيرهم في الاقتداء بهم فاتصل به اتصال النقيض بالنقيض وقيل إنه لما تقدم ذكر البعث بين بعده حكم يوم البعث وأنه ينتصف فيه للمظلوم من الظالم.