الآيـة 260

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿260﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وحمزة وخلف ورويس عن يعقوب فصرهن بكسر الصاد والباقون ﴿فصرهن﴾ بضم الصاد وروي في الشواذ عن ابن عباس فصرهن بكسر الصاد وتشديد الراء وفتحها وعن عكرمة فصرهن بفتح الصاد وكسر الراء وتشديدها وقرأ عاصم في رواية أبي بكر جزءا مثقلا مهموزا حيث وقع وقرأ أبو جعفر جزا مشددا والباقون بالهمز و التخفيف.

الحجة:

يقال صرته أصوره أي أملته ومنه قول الشاعر:

يصور عنوقها أحوى زنيم

أي يميل عنوق هذه الغنم تيس أحوى وصرته أصوره قطعته قال أبو عبيدة فصرهن من الصور وقال هو القطع وقال أبو الحسن وقد قالوا بمعنى القطع صار يصير أيضا قال الشاعر:

وفرع يصير الجيد وحف كأنه

على الليت قنوان الكروم الدوالح

ومعنى هذا يميل الجيد من كثرته فقد ثبت أن الميل والقطع يقال في كل واحد منهما أيضا صار يصير فمن جعل ﴿فصرهن إليك﴾ بمعنى أملهن إليك حذف من الكلام والمعنى أملهن إليك فقطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فحذف الجملة لدلالة الكلام عليها كما حذف من قوله ﴿اضرب بعصاك البحر فانفلق﴾ أي فضرب فانفلق ومن قدر ﴿فصرهن﴾ على معنى فقطعهن لم يحتج إلى إضمار ويحتمل كلا الوجهين كل واحد من القراءتين على ما ذكرناه وقوله ﴿إليك﴾ إن جعلت صرهن بمعنى فقطعهن كان إليك متعلقا بخذ أي خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن ثم اجعل وإن جعلته بمعنى أملهن احتمل إليك أن يكون متعلقا بخذ وأن يكون متعلقا بصرهن وقياس قول سيبويه أن يكون متعلقا بقوله ﴿فصرهن﴾ لأنه أقرب إليه ومن قرأ فصرهن بكسر الصاد وتشديد الراء فإنه يكون من صره يصره أي قطعه والمتعدي من هذا الباب قليل وقد روي عن عكرمة أيضا فصرهن بضم الصاد فيكون من صره يصره وهذا على القياس ومن قرأ فصرهن فهو فعلهن من صرى يصري تصرية إذا حبس وقطع قال:

رب غلام قد صرى في فقرته

ماء الشباب عنفوان شرته

أي حبسه وقطعه ومنه الشاة المصراة أي المحبوسة اللبن المقطوعة في ضرعها عن الخروج وأما الوجه في قراءة من قرأ جزءا بالتثقيل فقد ذكرنا عند قوله تعالى ﴿قالوا أتتخذنا هزوا﴾ ومن قرأ جزا بالتشديد فأصله جزءا ثم خفف همزته ثم إنك إذا وقفت كان لك السكون وإن شئت الإشمام فتقول الجزو وإن شئت التشديد (فتقول) الجز ثم أنه وصل على وقفه فقال جزا كما قال الشاعر:

ببازل وجناء أو عيهل

كان مهواها على الكلكل

فأجرى الوصل مجرى الوقف.

اللغة:

اطمأن يطمئن توطأ والمطمئن من الأرض ما انخفض وتطامن واطمأن إليه إذا وثق به لسكون نفسه إليه ولتوطي حاله بالأمانة عنده وأصل الباب التوطئة والطير معروف وطار يطير طيرانا وطيرورة والباب يدل على خفة الشيء في الهواء ثم يستعار ذلك في غيره وفي كل سرعة وتطير من الطيرة وهو زجر الطير بما يكره وطائر الإنسان عمله الذي تقلده من خير أو شر لأنه بمنزلة طائر الزجر في البركة والتشؤم وفجر مستطير منتشر في الأفق وغبار مستطار وفرس مطار حديد الفؤاد لأنه طيار في جريه والجبل وتد من أوتاد الأرض وجبل فلان على كذا أي طبع ورجل ذو جبلة إذا كان غلظ الجسم والجبلة الأمة من الناس وأجبل الحافر إذا بلغ إلى صلابة لا يمكنه الحفر عندها ومنه أجبل الشاعر إذا صعب عليه القول والجزء بعض الشيء وجزأته بعضته والفرق بين الجزء والسهم أن السهم من الجملة ما ينقسم عليه نحو الاثنين من العشرة وقد يقال الجزء لما لا ينقسم عليه نحو الثلاثة من العشرة ولا تنقسم العشرة عليها وإن كانت الثلاثة جزءا من العشرة.

الإعراب:

العامل في إذ في المعنى اذكر أي واذكر هذه القصة عن الزجاج ويجوز أن يكون عطفا على قوله ﴿ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم﴾ أي وأ لم تر إذ قال وموضع كيف نصب بقوله ﴿تحيي الموتى﴾ والمعنى بأي حال تحيي الموتى وقوله ﴿ليطمئن قلبي﴾ اللام يتعلق بمعنى أرني تقديره أرني ليطمئن قلبي من الطير صفة لأربعة فعلى هذا يكون من للتبعيض وللتبيين ويجوز أن يتعلق بخذ فعلى هذا لا يكون إلا للتبيين منهن أي جزء من كل واحد منهن فلما قدم على جزء وقع موضع النصب على الحال من جزء وقوله ﴿سعيا﴾ مصدر وقع موقع الحال وكأنه قال يسعين سعيا أو ساعيات سعيا.

المعنى:

ثم ذكر تعالى ما أراه إبراهيم عيانا من إحياء الموتى فقال ﴿وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى﴾ اختلف في سبب سؤال إبراهيم هذا على وجوه (أحدها) ما قاله الحسن والضحاك وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله أنه رأى جيفة تمزقها السباع فيأكل منها سباع البر وسباع الهواء ودواب البحر فسأل الله إبراهيم فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك (وثانيها) ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الملك بشر إبراهيم (عليه السلام) بأن الله قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل الله تعالى أن يفعل ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد أجاب دعوته واتخذه خليلا (وثالثها) أن سبب السؤال منازعة نمرود إياه في الإحياء إذ قال أنا أحيي وأميت وأطلق محبوسا وقتل إنسانا فقال إبراهيم ليس هذا بإحياء وقال يا رب أرني كيف تحيي الموتى ليعلم نمرود ذلك وروي أن نمرود توعده بالقتل إن لم يحيي الله الميت بحيث يشاهده فلذلك قال ﴿ليطمئن قلبي﴾ أي بأن لا يقتلني الجبار عن محمد بن إسحاق بن يسار (ورابعها) أنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد أن كان عالما به من جهة الاستدلال والبرهان لتزول الخواطر ووساوس الشيطان وهذا أقوى الوجوه ﴿قال أولم تؤمن﴾ هذه الألف استفهام ويراد به التقرير كقول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي قد آمنت لا محالة فلم تسأل ذا وهذه الألف إذا دخلت على الإثبات فالمراد النفي كقوله ﴿أأنت قلت للناس﴾ أي لم تقل ﴿قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ أي بلى أنا مؤمن ولكن سألت ذاك لأزداد يقينا إلى يقيني عن الحسن وقتادة ومجاهد وابن جبير وقيل لأعاين ذلك ويسكن قلبي إلى علم العيان بعد علم الاستدلال وقيل ليطمئن قلبي بأنك قد أجبت مسألتي واتخذتني خليلا كما وعدتني ﴿قال فخذ أربعة من الطير﴾ مختلفة الأجناس وإنما خص الطير من بين سائر الحيوانات لخاصية الطيران وقيل إنها الطاووس والديك والحمام والغراب أمر أن يقطعها ويخلط ريشها بدمها هذا قول مجاهد وابن جريج وعطاء وابن زيد وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ﴿فصرهن إليك﴾ أي قطعهن عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقيل معناه اضممهن إليك عن عطاء وابن زيد وقد تقدم بيانه في وجه القراءة ﴿ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا﴾ وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن معناه فرقهن على كل جبل وكانت عشرة أجبل ثم خذ بمناقيرهن وادعهن باسمي الأكبر وحلفهن بالجبروت والعظمة يأتينك سعيا ففعل إبراهيم ذلك وفرقهن على عشرة أجبل ثم دعاهن فقال أجبن بإذن الله فكانت تجتمع و يأتلف لحم كل واحد وعظمه إلى رأسه وطارت إلى إبراهيم وقيل أن الجبال كانت سبعة عن ابن جريج والسدي وقيل كانت أربعة عن ابن عباس والحسن وقتادة وقيل أراد كل جبل على العموم بحسب الإمكان كأنه قال فرقهن على كل جبل يمكنك التفرقة عليه عن مجاهد والضحاك ويسأل فيقال كيف قال ثم ادعهن ودعاء الجماد قبيح وجوابه أنه أراد بذلك الإشارة إليها والإيماء لتقبل عليه إذا أحياها الله وقيل معنى الدعاء هاهنا الإخبار عن تكوينها أحياء كقوله سبحانه ﴿كونوا قردة خاسئين﴾ وقوله ﴿ائتيا طوعا أو كرها﴾ عن الطبري وقول من قال أنه جعل على كل جبل طيرا ثم دعاها بعيد من الصواب والفائدة لأنه إنما طلب بالعلم به كونه قادرا على إحياء الموتى عيانا وليس في إتيان طائر حي إليه بالإيماء ما يدل على ذلك وفي الكلام حذف فكأنه قال فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله يحييهن فإذا أحياهن فادعهن فيكون الإيماء إليها بعد أن صارت أحياء ففعل إبراهيم ذلك فنظر إلى الريش يسعى بعضها إلى بعض وكذلك العظام واللحم ثم أتينه مشيا على أرجلهن فتلقى كل طائر رأسه وذلك قوله ﴿يأتينك سعيا﴾ وذكر عن النضر بن شميل قال سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى ﴿يأتينك سعيا﴾ هي يقال للطائر إذا طار سعى فقال لا قلت فما معناه قال معناه يأتينك وأنت تسعى سعيا ﴿واعلم أن الله عزيز﴾ أي قوي لا يعجز عن شيء ﴿حكيم﴾ في أفعاله وأقواله وقيل عزيز يذل الأشياء له ولا يمتنع عليه شيء حكيم أفعاله كلها حكمة وصواب ومما يسأل في هذه الآية أن يقال كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله ﴿أرني أنظر إليك﴾ وجوابه من وجهين (أحدهما) أنه سأل آية لا يصح معها بقاء التكليف من وقوع الضرورة التي لا يعترضها الشكوك بوجه وإبراهيم إنما سأل في شيء خاص يصح معه التكليف (والآخر) أن الأحوال قد تختلف فيكون الأصلح في بعض الأحوال الإجابة وفي بعضها المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.