الآيـة 259

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿259﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي لبت بالإدغام والباقون بالإظهار وقرأ أهل العراق غير أبي عمرو وعاصم لم يتسن واقتد بحذف الهاء وصلا والباقون بإثبات الهاء في الوصل ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف وقرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بضم النون الأولى وبالراء وقرأ أهل الكوفة والشام ننشزها بالزاي وروى أبان عن عاصم ننشرها بفتح النون وضم الشين وبالراء وقرأ حمزة والكسائي قال اعلم موصولة الألف ساكنة الميم والباقون ﴿أعلم﴾ مقطوعة الألف مرفوعة الميم.

الحجة:

قال أبو علي من أدغم لبت أجرى التاء والثاء مجرى المثلين من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا واتفقا في الهمس ومن بين ولم يدغم فلتباين المخرجين لأن الطاء والدال والتاء من حيز والظاء والذال والثاء من حيز ومن قرأ ﴿لم يتسنه﴾ بالهاء في الوصل فيحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون الهاء لاما من السنة فيمن قال شجرة سنهاء فيكون سكون الهاء للجزم والآخر أن يكون من السنة أيضا فيمن قال استوا وسنوات أو يكون من المسنون الذي يراد به المتغير كأنه لم يتسن ثم قلب على حد القلب في لم يتظن وحكي أن أبا عمرو الشيباني إلى هذا كان يذهب في هذا الحرف فالهاء في ﴿يستنه﴾ على هذين القولين يكون للوقف فينبغي أن يلحق في الوقف ويسقط في الدرج وأما قوله اقتده فيجوز أن يكون الهاء كناية عن المصدر ولا يكون التي للوقف ولكن لما ذكر الفعل دل على مصدره فأضمره كما أضمر في قوله ﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم﴾ وقال الشاعر:

غدا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشى إن يلقها ذئب

فالهاء في يدرسه للمصدر لا يجوز أن يكون للمفعول لأن الفعل قد تعدى إلى المفعول باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه مرة ثانية وكذلك قوله فبهداهم اقتده يكون اقتد الاقتداء فيضمر لدلالة الفعل عليه ومن قرأ كيف ننشرها فمعناه كيف نحييها يقال أنشر الله الميت فنشر وقد وصفت العظام بالإحياء قال تعالى من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وكذلك في قوله ننشرها ومن قرأ ﴿ننشزها﴾ بالزاء فالنشز الارتفاع قال أبو الحسن نشزوا نشزته فتقدير ننشزها نرفع بعضها إلى بعض للإحياء ومن هذا النشوز من المرأة وهو أن تنبو عن الزوج في العشرة فلا تلائمه ومن قرأ ﴿قال أعلم﴾ على لفظ الخبر فلأنه لما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته ما شاهد أخبر عما تبينه وتيقنه أي أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قيل ومن قال اعلم على لفظ الأمر فالمعنى يؤول إلى الخبر وذلك أنه لما تبين له ما تبين من الأمر الذي لا مجال للشبهة عليه نزل نفسه منزلة غيره فخاطبها كما يخاطب سواها كقول الأعشى:

أرمي بها البيداء إذا هجرت

وأنت بين القرو والعاصر فقال أنت وهو يريد نفسه ومثله قوله:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل فخاطب نفسه كما يخاطب غيره قال أبو الحسن وهو أجود في المعنى.

اللغة:

أصل الخواء الخلاء قال الراجز:

يبدو خواء الأرض من خوائه والخواء الفرجة بين الشيئين لخلو ما بينهما وخوت الدار تخوي خواء فهي خاوية إذا باد أهلها لخلوها منهم والخوي الجوع خوى يخوي خوى لخلو البطن من الغذاء والتخوية التفريج بين العضدين والجنبين لخلو ما بينهما بتباعدهما.

﴿على عروشها﴾ أي على أبنيتها قال أبو عبيدة هي الخيام وهي بيوت الإعراب وقال غيره ﴿خاوية على عروشها﴾ أي بقيت حيطانها لا سقوف عليها وكل بناء عرش وعريش مكة أبنيتها وعرش يعرش عرشا إذا بنى والعريش البيت لارتفاع أبنيته والعرش السرير لارتفاعه عن غيره وعرش الرجل قوام أمره وعرش البيت سقفه والتعريش جعل الخشب تحت الكرم ليمتد عليه يقال عرشته وعرشته وأصل القرية الجمع من قريت الماء وسميت قرية لاجتماع الناس فيها للإقامة بها و﴿أنى يحيي﴾ من أين يحيي أو كيف يحيي والعام الحول وجمعه الأعوام وهو حول يأتي بعد شتوة وصيفة لأن فيه سبحا طويلا ربما يمكن من التصرف فيه والعوم السباحة والسفينة تعوم في جريها و الإبل تعوم في سيرها والاعتيام اصطفاء خيار مال الرجل لأنه يجري في أخذه شيئا بعد شيء كالسابح في الماء الجاري وإعتام الموت النفوس أولا فأولا كذلك وأصل الباب السبح واللبث المكث يقال لبث فهو لابث وتلبث تلبثا إذا تمكث والحمار يقال للوحشي والأهلي وأصله من الحمرة لأن الحمرة أغلب عليه وحمارة القيض شدة حره وحمر فو الفرس يحمر حمرا إذا أنتن وموت أحمر شديد مشبه بحمرة النار والأسود والأحمر العرب والعجم لأن السواد أغلب على لون العرب كما أن الحمرة أغلب على لون العجم ومنه قول الأشعث لعلي غلبت عليك هذه الحمراء يعني العجم والنشر خلاف الطي والنشر إذاعة الحديث وحث العود بالمنشار والنشر الرائحة الطيبة وربما قيل في الخبيثة والنشرة الرقية والنشز بالزاي المرتفع من الأرض.

الإعراب:

أو حرف عطف وهو عطف على معنى الكلام الأول وتقديره أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مر على قرية وموضع الكاف نصب بتر ومعناه التعجب لأن كل ما خرج من بابه لعظمه عن حد نظائره فهو مما يتعجب منه تقول ما أجهله أي قد خرج بجهله عن حد نظائره وكذلك لو قلت هل رأيت كزيد الجاهل لدللت على مثل الأول منه في التعجب لما بينا أن ما أفعله صيغة وضعت للتعجب وليس كذلك هل رأيت لأنها في الأصل للاستفهام وقيل الكاف زائدة للتوكيد كما زيدت في قوله ليس كمثله شيء والأول أوجه لأنه لا يحكم بالزيادة إلا لضرورة وقوله ﴿أنى﴾ استفهام في موضع نصب على الحال من يحيي وتقديره أ قادر أن يحيي ويجوز أن يكون مصدرا ليحيي وتقديره أي نوع يحيي أي أي إحياء يحيي وهذا أولى لأنه يكون سؤالا عن كيفية الإحياء لا إنكارا لأصل الإحياء وموضع كم نصب بلبثت كأنه قال أ مائة سنة لبثت أم أقل أم أكثر وقوله ﴿ولنجعلك﴾ دخلت الواو لاتصال اللام بفعل محذوف كأنه قال ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك لأن الواو لو أسقطت اتصلت اللام بالفعل المتقدم كيف في محل النصب على الحال من ننشر أو ننشز وذو الحال الضمير المستكن فيه أو على المصدر وننشزها جملة في موضع الحال من أنظر وذو الحال العظام.

المعنى:

﴿أو كالذي مر﴾ أي أو هل رأيت كالذي مر ومعناه إن شئت فانظر في قصة الذي حاج إبراهيم وإن شئت فانظر إلى قصة الذي مر ﴿على قرية﴾ وهو عزير عن قتادة وعكرمة والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله وقيل هو أرميا عن وهب وهو المروي عن أبي جعفر وقيل هو الخضر عن ابن إسحاق والقرية التي مر عليها هي بيت المقدس لما خربه بخت نصر عن وهب وقتادة والربيع وعكرمة وقيل هي الأرض المقدسة عن الضحاك وقيل هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت عن ابن زيد ﴿وهي خاوية على عروشها﴾ أي خالية وقيل خراب عن ابن عباس والربيع والضحاك وقيل ساقطة على أبنيتها وسقوفها كان السقوف سقطت ووقعت البنيان عليها قال ﴿أنى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ أي كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها وقيل كيف يحيي الله أهلها بعد ما ماتوا وأطلق لفظ القرية وأراد به أهلها كقوله ﴿واسأل القرية﴾ ولم يقل ذلك إنكارا ولا تعجبا ولا ارتيابا ولكنه أحب أن يريه الله إحياءها مشاهدة كما يقول الواحد منا كيف يكون حال الناس يوم القيامة وكيف يكون حال أهل الجنة في الجنة وكيف يكون حال أهل النار في النار وكقول إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى أحب أن يريه الله إحياء الموتى مشاهدة ليحصل له العلم به ضرورة كما حصل العلم دلالة لأن العلم الاستدلالي ربما اعتورته الشبهة ﴿فأماته الله مائة عام﴾ أي مائة سنة ﴿ثم بعثه﴾ أي أحياه كما كان ﴿قال كم لبثت﴾ في التفسير أنه سمع نداء من السماء كم لبثت يعني في مبيتك ومنامك وقيل إن القائل له نبي وقيل ملك وقيل بعض المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه ﴿قال لبثت يوما أو بعض يوم﴾ لأن الله أماته في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار فقال يوما ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم فقال ﴿بل لبثت مائة عام﴾ معناه بل مكثت في مكانك مائة سنة ﴿فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه﴾ أي لم تغيره السنون وإنما قال ﴿لم يتسنه﴾ على الواحد لأنه أراد به جنس الطعام والشراب أي أنظر إلى ما تركته أنه لم يتسنه وقيل أراد به الشراب لأنه أقرب المذكورين إليه وقيل كان زاده عصيرا وتينا وعنبا وهذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيرا وفسادا فوجد العصير حلوا والتين والعنب كما جنيا لم يتغيرا ﴿وانظر إلى حمارك﴾ معناه انظر إليه كيف تفرق أجزاؤه وتبدد عظامه ثم انظر كيف يحييه الله وإنما قال له ذلك ليستدل بذلك على طول مماته ﴿ولنجعلك آية للناس﴾ فعلنا ذلك وقيل معناه فعلنا ذلك إجابة لك إلى ما أردت وقوله ﴿ولنجعلك آية للناس﴾ أي حجة للناس في البعث ﴿وانظر إلى العظام كيف ننشرها﴾ كيف نحييها وبالزاي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد وتركب بعضها على بعض ﴿ثم نكسوها﴾ أي نلبسها ﴿لحما﴾ واختلف فيه فقيل أراد عظام حماره عن السدي وغيره فعلى هذا يكون تقديره وانظر إلى عظام حمارك وقيل أراد عظامه عن الضحاك وقتادة والربيع قالوا أول ما أحيا الله منه عينه وهو مثل غرقيء البيض فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفرقة تجتمع إليه وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع الذي يأتلف إلى العظام من هاهنا ومن هاهنا ويلتزم ويلتزق بها حتى قام وقام حماره ﴿فلما تبين له﴾ أي ظهر وعلم وإنما علم أنه مات مائة سنة بشيئين (أحدهما) بإخبار من أراه الآية المعجزة في نفسه وحماره وطعامه وشرابه وتقطع أوصاله ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حالته التي كان عليها في أول أمره (والآخر) أنه علم ذلك بالآثار الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه فرأى ولد ولده شيوخا وقد كان خلف آباءهم شبابا إلى غير ذلك من الأمور التي تغيرت والأحوال التي تقلبت وروي عن علي (عليه السلام) أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة فأماته الله مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة وله ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات الله وقيل أنه رجع وقد أحرق بخت نصر التوراة فأملأها من ظهر قلبه فقال رجل منهم حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فأروه فأخرجها فعارضوا ذلك بما أملى فما اختلفا في حرف فقالوا ما جعل الله التوراة في قلبه إلا وهو ابنه فقالوا عزير ابن الله ﴿قال﴾ أي قال المار على القرية ﴿أعلم﴾ أي أتيقن ومن قرأ اعلم فمعناه على ما تقدم ذكره من أنه يخاطب نفسه وقيل أنه أمر من الله تعالى له ﴿أن الله على كل شيء قدير﴾ أي لم أقل ما قلت عن شك وارتياب ويحتمل أنه إنما قال ذلك لأنه ازداد بما شاهد وعاين يقينا وعلما إذ كان قبل ذلك علم استدلال فصار علمه ضرورة ومعاينة.