الآيـة 258

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿258﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة أنا أحيي بإثبات الألف في أنا والمد إذا كان بعدها همزة مضمومة أو مفتوحة نحو أنا أخوك فإن كان بعدها همزة مكسورة نحو إن أنا إلا نذير حذفوا الألف إجماعا.

الحجة:

الأصل في أنا الهمزة والنون وإنما يلحقها الألف في الوقف كما أن الهاء تلحق للوقف في مسلمونه وكما أن الهاء التي تلحق للوقف تسقط في الوصل كذلك هذه الألف تسقط في الوصل وقد جاءت ألف أنا مثبتة في الوصل في الشعر نحو قول الأعشى:

فكيف أنا وانتحال القوافي

بعد المشيب كفى ذاك عارا وقول الآخر:

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذريت السناما

قال أبو علي وما روي في إثبات الألف في أنا إذا كان بعد الألف همزة فإني لا أعلم بين الهمزة وغيرها من الحروف فصلا ولا شيئا يجب من أجله إثبات الألف التي حكمها أن تثبت في الوقف.

اللغة:

في بهت أربع لغات بهت على وزن ظرف وبهت على وزن حذر وبهت على وزن ذهب وبهت على وزن ما لم يسم فاعله وهذا هو الأفصح وعليه القراءة يقال بهت الرجل يبهت بهتا إذا انقطع وتحير ويقال بهت الرجل أبهته بهتانا إذا قابلته بكذب فالبهت الحيرة عند استيلاء الحجة لأنها كالحيرة للمواجه بالكذب لأن تحير المكذب في مذهبه كتحير المكذوب عليه ومنه قوله أ تأخذونه بهتانا كأنه قال أ تأخذونه ادعاء للكذب فيه.

الإعراب:

﴿ ألم تر إلى الذي﴾ إنما أدخلت إلى في الكلام للتعجب من حال الكافر المحاج بالباطل كما يقولون أ ما ترى إلى فلان كيف يصنع ومنه معنى هل رأيت كفلان في صنيعه كذا فإنما دخلت إلى من بين حروف الجر لهذا المعنى لأنها لما كانت بمعنى الغاية والنهاية صار الكلام بمنزلة هل انتهت رؤيتك إلى من هذه صفته ليدل على بعد وقوع مثله على التعجيب منه لأن التعجب إنما يكون مما استبهم سببه ولم تجر العادة به وقد صارت إلى هاهنا بمنزلة كاف التشبيه لما بينا من العلة إذ كان ما ندر مثله كالذي يبعد وقوعه.

المعنى:

لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين وأن الكفار لا ولي لهم سوى الطاغوت تسلية لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قص عليه بعده قصة إبراهيم ونمرود فقال ﴿ألم تر﴾ يا محمد أي أ لم ينته علمك ورؤيتك ﴿إلى الذي حاج إبراهيم﴾ أي إلى من كان كالذي حاج فكأنه قال هل رأيت كالذي حاج أي خاصم وجادل إبراهيم وهو نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادعى الربوبية عن مجاهد وغيره وإنما أطلق لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل ولم تكن له فيه حجة لأن في زعمه أن له فيه حجة واختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما عن الصادق (عليه السلام) ﴿في ربه﴾ أي في رب إبراهيم الذي يدعو إلى توحيده وعبادته ﴿أن آتاه الله الملك﴾ أي لأن آتاه الله الملك الهاء من آتاه تعود إلى المحاج لإبراهيم أي أعطاه الله الملك وهو نعيم الدنيا وسعة المال فبطر الملك حمله على محاجة إبراهيم عن الحسن والجبائي والملك على هذا الوجه جائز أن ينعم الله تعالى به على كل أحد فأما الملك بتمليك الأمر والنهي وتدبير أمور الناس وإيجاب الطاعة على الخلق فلا يجوز أن يؤتيه الله إلا من يعلم أنه يدعو إلى الصلاح والسداد والرشاد دون من يدعو إلى الكفر والفساد ولا يصح منه لعلمه بالغيوب والسرائر تفويض الولاية إلى من هذا سبيله لما في ذلك من الاستفساد وقيل إن الهاء تعود إلى إبراهيم عن أبي القاسم البلخي ويسأل على هذا فيقال كيف يكون الملك لإبراهيم والحبس والإطلاق إلى نمرود وجوابه أن الحبس والإطلاق والأمر والنهي كان من جهة الله لإبراهيم وإنما كان نمرود يفعل ذلك على وجه القهر والغلبة لا من جهة ولاية شرعية ﴿إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت﴾ في الكلام حذف وهو إذ قال له نمرود من ربك فقال ربي الذي يحيي ويميت بدأ بذكر الحياة لأنها أول نعمة ينعم الله بها على خلقه ثم يميتهم وهذا أيضا لا يقدر عليه إلا الله تعالى لأن الإماتة هي أن يخرج الروح من بدن الحي من غير جرح ولا نقص بنية ولا إحداث فعل يتصل بالبدن من جهته وهذا خارج عن قدرة البشر ﴿قال أنا أحيي وأميت﴾ أي فقال نمرود أنا أحيي بالتخلية من الحبس من وجب عليه القتل وأميت بالقتل من شئت ممن هو حي وهذا جهل من الكافر لأنه اعتمد في المعارضة على العبارة فقط دون المعنى عادلا عن وجه الحجة بفعل الحياة للميت أو الموت للحي على سبيل الاختراع الذي ينفرد به تعالى ولا يقدر عليه سواه ﴿قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب﴾ قيل في انتقاله من حجة إلى أخرى وجهان (أحدهما) أن ذلك لم يكن انتقالا وانقطاعا عن إبراهيم فإنه يجوز من كل حكيم إيراد حجة أخرى على سبيل التأكيد بعد تمام ما ابتدأ به من الحجاج وعلامة تمامه ظهوره من غير اعتراض عليه بشبهة لها تأثير عند التأمل والتدبر لموقعها من الحجة المعتمد عليها (والثاني) أن إبراهيم إنما قال ذلك ليبين أن من شأن من يقدر على إحياء الأموات وإماتة الأحياء أن يقدر على إتيان الشمس من المشرق فإن كنت قادرا على ذلك فأت بها من المغرب وإنما فعل ذلك لأنه لو تشاغل معه بأني أريت اختراع الموت والحيوة من غير سبب ولا علاج لاشتبه على كثير ممن حضر فعدل إلى ما هو أوضح لأن الأنبياء إنما بعثوا للبيان والإيضاح وليست أمورهم مبنية على تحاج الخصمين وطلب كل واحد منهما غلبة خصمه وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أن إبراهيم (عليه السلام) قال له أحي من قتلته إن كنت صادقا ثم استظهر عليه مما قاله ثانيا ﴿فبهت﴾ الذي كفر أي تحير عند الانقطاع بما بأن من ظهور الحجة فإن قيل فهلا قال له نمرود فليأت بها ربك من المغرب قيل عن ذلك جوابان (أحدهما) أنه لما علم بما رأى من الآيات أنه لو اقترح ذلك لأتى به الله تصديقا لإبراهيم فكان يزداد بذلك فضيحة عدل عن ذلك (والثاني) أن الله خذله ولطف لإبراهيم حتى أنه لم يأت بشبهة ولم يلبس ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ بالمعونة على بلوغ البغية من الفساد وقيل معناه لا يهديهم إلى المحاجة كما يهدي أنبياءه وأولياءه وقيل معناه لا يهديهم بألطافه وتأييده إذا علم أنه لا لطف لهم وقيل لهم لا يهديهم إلى الجنة وهذا لا يعارض قوله وأما ثمود فهديناهم لأنا قد بينا معاني الهداية ووجوهها قبل عند قوله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا فبعضها عام لجميع المكلفين وبعضها خاص للمؤمنين وفي هذه الآية دلالة على أن المعارف غير ضرورية إذ لو كانت كذلك لما صحت المحاجة في إثبات الصانع وفيها دلالة على فساد التقليد وحسن الحجاج وأنه تعالى إنما يعلم بأفعاله التي لا يقدر عليها غيره وفي تفسير ابن عباس أن الله سبحانه سلط على نمرود بعوضة فعضت شفتيه فأهوى إليها بيده ليأخذها فطارت في منخره فذهب ليستخرجها فطارت في دماغه فعذبه الله بها أربعين ليلة ثم أهلكه.