الآيـة 256

لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾

اللغة:

الرشد نقيض الغي وهو الرشد والرشد وتقول غوي يغوى غيا وغواية إذا سلك طريق الهلاك وغوى إذا خاب قال الشاعر:

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وغوي الفصيل يغوى غوى إذا قطع عن اللبن حتى يكاد يهلك والطاغوت وزنها في الأصل فعلوت وهو مصدر مثل الرغبوت والرهبوت والرحموت ويدل على أنها مصدر وقوعها على الواحد والجماعة بلفظ واحد وأصلها طغيوت لأنها من الياء يدل على ذلك قوله في طغيانهم يعمهون ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين فصارت طيغوت ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار طاغوت فوزنها الآن بعد القلب فلعوت وجمع طاغوت طواغيت وطواغت وطواغ على حذف الزيادة والطواغي على العوض من المحذوف والعروة عروة الدلو ونحوه لأنها متعلقة وعروت الرجل أعروه عروا إذا ألممت به متعلقا بسبب منه واعتراه هم إذا تعلق به وعرته الحمى تعروه إذا علقت به فالأصل في الباب التعلق قال الأزهري العروة كل نبات له أصل ثابت كالشيح والقيصوم وغيره وبه شبهت عرى الأشياء في لزومها والوثقي تأنيث الأوثق والانفصام والانقطاع والانصداع نظائر قال الأعشى:

ومبسمها من شتيت النبات

غير أكس ولا منفصم يقال فصمته فانفصم.

النزول:

قيل نزلت الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له صبيح وكان يكرهه على الإسلام عن مجاهد وقيل نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين وكان له ابنان فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا إلى الشام فأخبر أبو الحصين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله تعالى ﴿لا إكراه في الدين﴾ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أبعدهما الله هما أول من كفر فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله ﴿فلا وربك لا يؤمنون﴾ الآية قال وكان هذا قبل أن يؤمر النبي بقتال أهل الكتاب ثم نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة عن السدي وهكذا قال ابن مسعود وابن زيد أنها منسوخة ب آية السيف وقال الباقون هي محكمة وقيل كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتا فترضع أولاد اليهود فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالوا يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فنزلت ﴿لا إكراه في الدين﴾ فقال خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم عن ابن عباس.

المعنى:

لما تقدم ذكر اختلاف الأمم وأنه لو شاء الله لأكرههم على الدين ثم بين تعالى دين الحق والتوحيد عقبه بأن الحق قد ظهر والعبد قد خير إكراه بقوله ﴿لا إكراه في الدين﴾ وفيه عدة أقوال (أحدها) أنه في أهل الكتاب خاصة الذين يؤخذ منهم الجزية عن الحسن وقتادة والضحاك (وثانيها) أنه في جميع الكفار ثم نسخ كما تقدم ذكره عن السدي وغيره (وثالثها) أن المراد لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرها لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره عن الزجاج (ورابعها) أنها نزلت في قوم خاص من الأنصار كما ذكرناه في النزول عن ابن عباس وغيره (وخامسها) أن المراد ليس في الدين إكراه من الله ولكن العبد مخير فيه لأن ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه فأما ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة كما أن من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا والمراد الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الذي ارتضاه ﴿قد تبين الرشد من الغي﴾ قد ظهر الإيمان من الكفر والحق من الباطل بكثرة الحجج والآيات الدالة عقلا وسمعا والمعجزات التي ظهرت على يد النبي ﴿فمن يكفر بالطاغوت﴾ فيه أقوال (أحدها) أنه الشيطان عن مجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله (وثانيها) أنه الكاهن عن سعيد بن جبير (وثالثها) أنه الساحر عن أبي العالية (ورابعها) أنه مردة الجن والإنس وكلما يطغي (وخامسها) أنه الأصنام وما عبد من دون الله وعلى الجملة فالمراد من كفر بما خالف أمر الله ﴿ويؤمن بالله﴾ أي يصدق بالله وبما جاءت به رسله ﴿فقد استمسك﴾ أي تمسك واعتصم ﴿بالعروة الوثقى﴾ أي بالعصمة الوثيقة وعقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا لا يحله شبهة وعن مجاهد هو الإيمان بالله ورسوله وجرى هذه مجرى المثل لحسن البيان بإخراج ما لا يقع به الإحساس إلى ما يقع به ﴿لا انفصام لها﴾ أي لا انقطاع لها يعني كما لا ينقطع أمر من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسك بالإيمان ﴿والله سميع﴾ لأقوالكم ﴿عليم﴾ بضمائركم.