الآيات 70-73

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿70﴾ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿71﴾ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴿72﴾ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿73﴾

المعنى:

ثم أمر الله سبحانه أهل الإيمان والتوحيد بالتقوى والقول السديد فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ أي اتقوا عقاب الله باجتناب معاصيه وفعل واجباته ﴿وقولوا قولا سديدا﴾ أي صوابا بريئا من الفساد خالصا من شائقة الكذب واللغو موافق للظاهر وللباطن وقال الحسن وعكرمة صادقا يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله وقال مقاتل هذا يتصل بالنهي عن الإيذاء أي قولوا قولا صوابا ولا تنسبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما لا يجمل ولا يليق به ﴿يصلح لكم أعمالكم﴾ معناه إن فعلتم ذلك يصلح لكم أعمالكم بأن يلطف لكم فيها حتى تستقيموا على الطريقة المستقيمة السليمة من الفساد ويوفقكم لما فيه الصلاح والرشاد وقيل معناه يزكي أعمالكم ويتقبل حسناتكم عن ابن عباس ومقاتل ﴿ويغفر لكم ذنوبكم﴾ باستقامتكم في الأقوال والأفعال ﴿ومن يطع الله ورسوله﴾ في الأوامر والنواهي ﴿فقد فاز فوزا عظيما﴾ أي فقد أفلح إفلاحا عظيما وقيل فقد ظفر برضوان الله وكرامته ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال﴾ اختلف في معنى الأمانة فقيل هي ما أمر الله به من طاعته ونهى عنه من معصيته عن أبي العالية وقيل هي الأحكام والفرائض التي أوجبها الله تعالى على العباد عن ابن عباس ومجاهد وهذان القولان متقاربان وقيل هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده حين أراد التوجه إلى مكة عن أمر ربه فخان قابيل إذ قتل هابيل عن السدي والضحاك واختلف في معنى عرض الأمانة على هذه الأشياء وقيل فيه أقوال (أحدها) أن المراد العرض على أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وعرضها عليهم هو تعريفه إياهم أن في تضييع الأمانة الإثم العظيم وكذلك في ترك أوامر الله تعالى وأحكامه فبين سبحانه جرأة الإنسان على المعاصي وإشفاق الملائكة من ذلك فيكون المعنى عرضنا الأمانة على أهل السماوات والأرض والجبال من الملائكة والجن والإنس ﴿فأبين أن يحملنها﴾ أي فأبى أهلهن أن يحملوا تركها وعقابها والمأثم فيها ﴿وأشفقن منها﴾ أي وأشفقن أهلهن من حملها ﴿وحملها الإنسان إنه كان ظلوما﴾ لنفسه بارتكاب المعاصي ﴿جهولا﴾ بموضع الأمانة في استحقاق العقاب على الخيانة فيها عن أبي علي الجبائي وقال إذا لم يصح حمله على نفس السماوات والأرض والجبال فلا بد أن يكون المراد به أهلها لأنه يجب أن يكون المراد به المكلفين دون غيرهم لأن ذلك لا يصح إلا فيهم ولا بد من أن يكون المراد بحمل الأمانة تضييعها لأن نفس الأمانة قد حملتها الملائكة وقامت بها قال الزجاج كل من خان الأمانة فقد حملها ومن لم يحمل الأمانة فقد أداها وكذلك كل من أثم فقد احتمل الإثم قال الله سبحانه وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم فقد أعلم الله سبحانه أن من باء بالإثم يسمى حاملا للإثم وهو قول الحسن لأنه قال الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا وأنشد بعضهم في حمل الأمانة بمعنى الخيانة قول الشاعر:

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة

وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

وأقول أن الظاهر لا يدل على ذلك لأنه لا يجوز أن يكون المراد بالحمل هنا قبول الأمانة لأن الشاعر جعله في مقابلة الأداء فكأنه قال إذا كنت لا تزال تقبل أمانة وتؤدي أخرى شغلت نفسك بقبول الودائع وأدائها فأثقلتك (وثانيها) أن معنى عرضنا عارضنا وقابلنا فإن عرض الشيء على الشيء ومعارضته به سواء والأمانة ما عهد الله سبحانه إلى عباده من أمره ونهيه وأنزل فيه الكتب وأرسل الرسل وأخذ عليه الميثاق والمعنى أن هذه الأمانة في جلالة موقعها وعظم شأنها لو قيست بالسماوات والأرض والجبال وعورضت بها لكانت هذه الأمانة أرجح وأثقل وزنا ومعنى قوله ﴿فأبين أن يحملنها﴾ ضعفن عن حملها كذلك ﴿وأشفقن منها﴾ لأن الشفقة ضعف القلب ولذلك صار كناية عن الخوف الذي يضعف عنده القلب ثم قال إن هذه الأمانة التي من صفتها أنها أعظم من هذه الأشياء العظيمة تقلدها الإنسان فلم يحفظها بل حملها وضيعها لظلمه على نفسه ولجهله بمبلغ الثواب والعقاب عن أبي مسلم (وثالثها) أنه على وجه التقدير إلا أنه أجري عليه لفظ الواقع لأن الواقع أبلغ من المقدر.

معناه لو كانت السماوات والأرض والجبال عاقلة ثم عرضت عليها الأمانة وهي وظائف الدين أصولا وفروعا وما ذكرناه من الأقاويل فيها بما فيها من الوعد والوعيد عرض تخيير لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها وشدتها وقوتها ولامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقها ثم حملها الإنسان مع ضعف جسمه ولم يخف الوعيد لظلمه وجهله وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على نفس السماوات والأرض فامتنعت من حملها (ورابعها) أن معنى العرض والإباء ليس هو ما يفهم بظاهر الكلام بل المراد تعظيم شأن الأمانة لا مخاطبة الجماد والعرب تقول سألت الربع وخاطبت الدار فامتنعت عن الجواب وإنما هو إخبار عن الحال عبر عنه بذكر الجواب والسؤال وتقول أتى فلان بكذب لا تحمله الجبال وقال سبحانه فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وخطاب من لا يفهم لا يصح وقال الشاعر:

فأجهشت للبوباة حين رأيته

وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له أين الذين عهدتهم

بجنبك في خفض وطيب زمان

فقال مضوا واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

وقال آخر:

فقال لي البحر إذ جئته

وكيف يجيب ضرير ضريرا

فالأمانة على هذا ما أودع الله السماوات والأرض والجبال من الدلائل على وحدانيته وربوبيته فأظهرتها والإنسان الكافر كتمها وجحدها لظلمه وجهله وبالله التوفيق ولم يرد بقوله الإنسان جميع الناس بل هو مثل قوله ﴿إن الإنسان لفي خسر وإن الإنسان لربه لكنود﴾ وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه والأنبياء والأولياء والمؤمنون عن عموم هذه الآية خارجون ولا يجوز أن يكون الإنسان محمولا على آدم (عليه السلام) لقوله ﴿إن الله اصطفى آدم﴾ وكيف يكون من اصطفاه الله من بين خلقه موصوفا بالظلم والجهل ثم بين سبحانه الغرض الصحيح والحكمة البالغة في عرضه هذه الأمانة فقال ﴿ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ يعني بتضييع الأمانة قال الحسن هما اللذان حملاهما ظلما وجهلا ﴿ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات﴾ بحفظهم الأمانة ووفائهم وهذا هو الغرض بالتكليف عند من عرف المكلف والمكلف فالمعنى أنا عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات ﴿وكان الله غفورا﴾ أي ستارا لذنوب المؤمنين ﴿رحيما﴾ بهم.