الأيـة 249

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿249﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة غرفة بالفتح والباقون بالضم.

الحجة:

قال أبو علي من فتح الغين عدى الفعل إلى المصدر والمفعول في قوله محذوف والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ومن ضم الغين عدى الفعل إلى المفعول به ولم يعده إلى المصدر لأن الغرفة العين المغترفة فهو بمنزلة إلا من اغترف ماء والبغداديون يجعلون هذه الأسماء المشتقة من المصادر بمنزلة المصادر ويعملونها كما يعملون المصادر فيقولون عجبت من دهنك لحيتك وقد جاء من العرب ما يدل عليه وهو قول الشاعر:

وبعد عطائك المائة الرتاعا

وأشياء غير هذا فعلى هذا يجوز أن ينصب الغرفة نصب الغرفة وقد قال سيبويه في نحو الجلسة والركبة أنه قد يستغني بها عن المصادر أو قال تقع مواقعها وهذا كالمقارب لقولهم ولو قيل أن الضم هنا أوجه لقوله ﴿فشربوا منه﴾ والمشروب منه والمشروب منه الغرفة لكان قولا.

اللغة:

الفصل القطع وفصل بالجنود أي سار بهم وقطعهم عن موضعهم وفصل الصبي فصالا قطعه عن اللبن والجنود جمع جند وجند الجنود أي جمعهم وفي الحديث الأرواح جنود مجندة وأصل الباب الجند الغليظ من الأرض يقال طعم الماء كما يقال طعم الطعام وأنشدوا:

فإن شئت حرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

أراد لم أذق والنقاخ العذب وغرف الماء يغرف غرفا واغترف بمعنى والمغرفة الآلة التي يغرف بها وغرب غروف كبير والمجاوزة من الجواز يقال جاز الشيء يجوزه إذا قطعه وأجازه إجازة إذا استصوبه والشيء يجوز إذا لم يمنع منه دليل وجوز الشيء وسطه مشبه بمجاز الطريق وهو وسطه الذي يجاز فيه وقيل إن اشتقاق الجوزاء منه لأنها تعترض جوز السماء والمجاز في الكلام لأنه خروج عن الأصل إلى ما يجوز في الاستعمال وأصل الباب الجواز وهو المرور من غير شيء يصدر منه التجاوز عن الذنب لأنه المرور عليه بالصفح والطاقة القوة يقال أطقت الشيء إطاقة وطاقة وطوقا مثل أطعته إطاعة وطوعا والفئة الطائفة من الناس والجمع فئون وفئات ولا يجوز في عدة إلا عدات لأن نقص عدة من أوله وليس كذلك فئة وما نقص من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص وأما فئة ومائة وعزة فإن النقص فيه على غير اطراد وتقول فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وانفاء الشيء انفياء إذا انقطع وأصل الباب القطع ومنه الفئة لأنهم قطعة من الناس.

الإعراب:

قوله ﴿بيده﴾ من فتح فاء غرفة جاز أن يتعلق بالمصدر عنده وجاز أن يعلقه بالفعل أيضا ومن أعمل الغرفة إعمال المصدر جاز أن يتعلق الباء بها في قوله وكلا الأمرين مذهب و﴿من اغترف﴾ في موضع نصب بالاستثناء وكم خبرية وهي في موضع رفع بالابتداء.

المعنى:

﴿فلما فصل طالوت بالجنود﴾ في الكلام حذف لدلالة ما بقي عليه وهو فأتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها فصدقوا وانقادوا لطالوت فلما فصل طالوت أي خرج من مكانه وقطع الطريق بالجنود أي العساكر واختلف في عددهم فقيل كانوا ثمانين ألف مقاتل عن السدي وقيل سبعين ألفا عن مقاتل وذلك أنهم لما رأوا التابوت أيقنوا بالنصر فبادروا إلى الجهاد ﴿قال﴾ يعني طالوت ﴿إن الله مبتليكم بنهر﴾ أي مختبركم وممتحنكم ومعنى الابتلاء هاهنا تمييز الصادق عن الكاذب في قوله عن الحسن وكان سبب ابتلائهم بالنهر شكايتهم قلة الماء وخوف التلف من العطش عن وهب وقيل إنما ابتلوا بذلك ليصبروا عليه فيكثر ثوابهم ويستحقوا به النصر على عدوهم وليتعودوا الصبر على الشدائد فيصبروا عند المحاربة ولا ينهزموا واختلف في النهر الذي ابتلوا به فقيل هو نهر بين الأردن وفلسطين عن قتادة والربيع وقيل هو نهر فلسطين عن ابن عباس والسدي وقوله ﴿فمن شرب منه﴾ الهاء كناية عن النهر في اللفظ وهو في المعنى للماء ويقال شربت من نهر كذا ويراد به الماء ﴿فليس مني﴾ معناه ليس من أهل ولايتي وليس من أصحابي وممن يتبعني ﴿ومن لم يطعمه﴾ أي ومن لم يطعم من ذلك الماء ﴿فإنه مني﴾ أي من أهل ولايتي وأوليائي وهو من الطعم الذي هو ما يؤديه الذوق أي لم يجد طعمه لا من الطعام والطعم يوجد في الماء وفي الطعام جميعا ﴿إلا من اغترف غرفة بيده﴾ إلا من أخذ الماء مرة واحدة باليد ومن قرأ بالضم فمعناه إلا من شرب مقدار ملء كفه ﴿فشربوا منه﴾ أي شربوا كلهم أكثر من غرفة إلا قليلا منهم قيل إن الذين شربوا منه غرفة كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا عن الحسن وقتادة وجماعة وقيل أربعة آلاف رجل ونافق ستة وسبعون ألفا ثم نافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عن السدي وقيل من استكثر من ذلك الماء عطش ومن لم يشرب إلا غرفة روي وذهب عطشه ورد طالوت عند ذلك العصاة منهم فلم يقطعوا معه النهر ﴿فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه﴾ معناه فلما تخطى النهر طالوت والمؤمنون معه وهم أصحابه وروي عن البراء بن عازب وقتادة والحسن أنه إنما جاوز معه المؤمنون خاصة كانوا مثل عدد أهل بدر وقيل بل جاوز المؤمنون والكافرون إلا أن الكافرين انعزلوا وبقي المؤمنون على عدد أهل بدر عن ابن عباس والسدي وهذا أقوى لقوله سبحانه ﴿فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه﴾ فلما رأوا كثرة جنود جالوت ﴿قالوا﴾ أي قال الكفار منهم ﴿لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾ فقال المؤمنون حينئذ الذين عددهم عدة أهل بدر ﴿كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله﴾ قال أبو القاسم البلخي ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين غير أن بعضهم أشد إيقانا وأقوى اعتقادا وهم الذين قالوا ﴿كم من فئة قليلة﴾ إلى آخره ﴿قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله﴾ أي راجعون إلى الله وإلى جزائه قيل في يظنون ثلاثة أقوال (أحدها) إن معنى يظنون يستيقنون عن السدي كقول دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد

أي أيقنوا (والثاني) إن معناه يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن لأن حديث النفس بالشيء قد يكون مع الشك وقد يكون مع العلم إلا أنه قد كثر على ما كان مع الشك (والثالث) يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في تلك الوقعة ﴿كم من فئة﴾ أي فرقة ﴿قليلة غلبت فئة كثيرة﴾ أي قهرت فرقة كثيرة ﴿بإذن الله﴾ أي بنصره عن الحسن لأنه إذا أذن الله في القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ﴿والله مع الصابرين﴾ بالنصرة لهم على أعدائهم.