الآيات 114-115

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿114﴾ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴿115﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة والشام وعاصم ﴿منزلها﴾ بالتشديد والباقون منزلها مخففة.

الحجة:

يقوي التخفيف قوله ﴿أنزل علينا مائدة﴾ والأولى أن يكون الجواب على وفق السؤال والوجه في التشديد أن نزل وأنزل بمعنى واحد.

اللغة:

العيد اسم لما عاد إليك من شيء في وقت معلوم حتى قالوا للخيال عيد ولما يعود إليك من الحزن عيد قال الأعشى:

فوا كبدي من لاعج الهم والهوى

إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها

وقال الليث العيد كل يوم مجمع قال العجاج :

كما يعود العيد نصراني قال المفضل عادني عيدي أي عادتي وأنشد :

عاد قلبي من الطويلة عيد

وإنما قول تابط شرا :

يا عيد ما لك من شوق وإبراق

فإنه أراد الخيال الذي يعتاده.

الإعراب:

﴿تكون لنا﴾ في موضع النصب صفة لمائدة ولنا في موضع الحال لأن تقديره تكون عيدا لنا فقوله ﴿لنا﴾ صفة لعيد فلما تقدمه انتصب على الحال وقوله ﴿لأولنا وآخرنا﴾ بدل من قوله ﴿لنا﴾.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن سؤال عيسى (عليه السلام) إياه فقال ﴿قال عيسى بن مريم﴾ عن قومه لما التمسوا منه وقيل أنه إنما سأل ربه ذلك حين أذن له في السؤال ﴿اللهم ربنا أنزل علينا مائدة﴾ أي خوانا عليه طعام ﴿من السماء تكون لنا عيدا﴾ قيل في معناه قولان (أحدهما) نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا عن السدي وقتادة وابن جريج وهو قول أبي علي الجبائي (والثاني) أن معناه تكون عائدة فضل من الله علينا ونعمة منه لنا والأول هو الوجه ﴿لأولنا وآخرنا﴾ أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا وقيل معناه يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم عن ابن عباس ﴿وآية منك﴾ أي ودلالة منك عظيمة الشأن في إزعاج قلوب العباد إلى الإقرار بمدلولها والاعتراف بالحق الذي تشهد به ظاهرها تدل على توحيدك وصحة نبوة نبيك ﴿وارزقنا﴾ أي واجعل ذلك رزقا لنا وقيل معناه وارزقنا الشكر عليها عن الجبائي ﴿وأنت خير الرازقين﴾ وفي هذا دلالة على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا لأنه لو لم يكن كذلك لم يصح أن يقال له سبحانه ﴿أنت خير الرازقين﴾ كما لا يجوز أن يقال أنت خير الآلهة لما لم يكن غيره إلها ﴿قال الله﴾ مجيبا له إلى ما التمسه ﴿إني منزلها﴾ يعني المائدة ﴿عليكم فمن يكفر بعد منكم﴾ أي بعد إنزالها عليكم ﴿فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين﴾ قيل في معناه أقوال (أحدها) أنه أراد عالمي زمانه فجحد القوم فكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير عن قتادة وروي عن أبي الحسن موسى أنهم مسخوا خنازير (وثانيها) أنه أراد عذاب الاستئصال (وثالثها) أنه أراد جنسا من العذاب لا يعذب به أحدا غيرهم وإنما استحقوا هذا النوع من العذاب بعد نزول المائدة لأنهم كفروا بعد ما رأوا الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم لها فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفن من العذاب عظيم الموضع كما اختصت آيتهم بفن من الزجر عظيم الموقع.

القصة:

اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا فقال الحسن ومجاهد إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل والصحيح أنها نزلت لقوله تعالى ﴿إني منزلها عليكم﴾ ولا يجوز أن يقع في خبره الخلف ولأن الأخبار قد استفاضت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والصحابة والتابعين أنها نزلت قال كعب أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذه النصارى عيدا واختلفوا في كيفية نزولها وما عليها فروي عن عمار بن ياسر عن النبي قال نزلت المائدة خبزا ولحما وذلك لأنهم سألوا عيسى (عليه السلام) طعاما لا ينفد يأكلون منها قال فقيل لهم فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم قال فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا وقال ابن عباس أن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا الله ما شئتم يعطيكم فصاموا ثلاثين يوما فلما فرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وروى عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة قالا كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل اختلف عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلا اللحم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم وقال عطاء نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم وقال عطية العوفي نزل من السماء سمكة فيها طعم كل شيء وقال عمار وقتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة وقال قتادة كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل وقال يمان بن رئاب كانوا يأكلون منها ما شاءوا وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي أنه قال والله ما تبع عيسى شيئا من المساوىء قط ولا انتهر يتيما ولا قهقه ضحكا ولا ذب ذبابا عن وجهه ولا أخذ على أنفه من شيء نتن قط ولا عبث قط ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى وقال ﴿اللهم ربنا أنزل علينا مائدة﴾ الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة واليهود ينظرون إليها ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقام عيسى فتوضأ وصلى صلاة طويلة ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها تسيل سيلا من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من أنواع البقول ما عدا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة فقال عيسى ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء افتعله الله بالقدرة الغالبة كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله فقال الحواريون يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى فقال عيسى يا سمكة أحيي بإذن الله فاضطربت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ففزعوا منها فقال عيسى ما لكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها ما أخوفني عليكم أن تعذبوا يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله فعادت السمكة مشوية كما كانت فقالوا يا روح الله كن أول من يأكل منها ثم نأكل نحن فقال عيسى معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها عيسى أهل الفاقة والزمنى والمرضى والمبتلين فقال كلوا منها جميعا ولكم المهنأ ولغيركم البلاء فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض ومبتلى وكلهم شبعان يتجشى ثم نظر عيسى إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت عنهم فلم يأكل منها يومئذ زمن إلا صح ولا مريض إلا أبرىء ولا فقير إلا استغني ولم يزل غنيا حتى مات وندم الحواريون ومن لم يأكل منها وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار يتزاحمون عليها فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم وكانت تنزل غبا يوما ويوما لا فأوحى الله إلى عيسى اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها فأوحى الله إلى عيسى إني شرطت على المكذبين شرطا أن من كفر بعد نزولها أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فمسخ منهم ثلثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا باتوا من ليلهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا وبكى على الممسوخين أهلوهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا وفي تفسير أهل البيت (عليهم السلام) كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثم ترتفع فقال كبراؤهم ومترفوهم لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا فرفع الله المائدة ببغيهم ومسخوا قردة وخنازير.