الآيات 1-5
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿1﴾ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿2﴾ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿3﴾ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴿4﴾ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿5﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو بما يعملون خبيرا بالياء والباقون بالتاء وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿اللائي﴾ مهموزة ممدودة مشبعة بعدها ياء وفي سورة المجادلة والطلاق مثله وقرأ نافع ويعقوب اللاء مهموزة ممدودة مختلسة لا ياء بعدها والباقون اللاي بغير همزة ولا مد حيث كانت قرأ عاصم ﴿تظاهرون﴾ بضم التاء وتخفيف الظاء وقرأ بفتح التاء وتخفيف الظاء أهل الكوفة غير عاصم وقرأ ابن عامر تظاهرون بفتح التاء وتشديد الظاء وقرأ الباقون تظهرون بغير ألف وتشديد الظاء والهاء.
الحجة:
قال أبو علي من قرأ بما يعملون بالياء فعلى ﴿لا تطع الكافرين﴾ إنه بما يعملون والتاء على المخاطبة ويدخل فيه الغيب واللائي أصله فاعل مثل شائي فالقياس أن يثبت الياء فيه كما يثبت في الشائي والنائي وقد حذفوا الياء في حروف من ذلك قولهم ما باليت به بالة ومنه جابة وكذا إذا حذفت من اللائي يصير اللاء فإن خففت الهمزة فالقياس أن تجعل بين بين وقد حكى سيبويه حذف الياء من اللاي ومن قرأ تظاهرون فإنه تتظاهرون فأدغم التاء في الظاء ومن قرأ ﴿تظاهرون﴾ مضمومة التاء فهو من ظاهر من امرأته ويقوي ذلك قولهم في مصدره الظهار ومن قرأ تظاهرون خفيفة الظاء فمعناه تتظاهرون فحذف تاء تتفاعلون التي أدغمها غيره وهو من قرأ تظاهرون بتشديد الظاء مع الألف.
النزول:
نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكلموه فقاموا وقام معهم عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر بن الخطاب ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم فقال إني أعطيتهم الأمان وأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) فاخرجوا من المدينة ونزلت الآية ﴿ولا تطع الكافرين﴾ من أهل مكة أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة والمنافقين ابن أبي وابن سعد وطعمة وقيل نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فطلبوا منه أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك وقوله ﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾ نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب الفهري وكان لبيبا حافظا لما يسمع وكان يقول إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد فكانت قريش تسميه ذا القلبين فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم أبو معمر وتلقاه أبو سفيان بن حرب وهو آخذ بيده إحدى نعليه والأخرى في رجله فقال له يا أبا معمر ما حال الناس قال انهزموا قال فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنه لم يكن له إلا قلب واحد لما نسي نعله في يده.
المعنى:
خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ أي اثبت على تقوى الله ودم عليه وقيل معناه اتق الله في إجابة المشركين إلى ما التمسوه وقيل إن بعض المسلمين هموا بقتل أولئك الذين قدموا المدينة بأمان فقال اتق الله في نقض العهد ﴿ولا تطع الكافرين والمنافقين﴾ مر بيانه وقيل إنه عام وهو الوجه والكافر هو الذي يظهر الكفر ويبطنه والمنافق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر ﴿إن الله كان عليما﴾ بما يكون قبل كونه ﴿حكيما﴾ فيما يخلقه ولما نهاه عن متابعة الكفار وأهل النفاق أمره باتباع أوامره ونواهيه على الإطلاق فقال ﴿واتبع ما يوحى إليك من ربك﴾ من القرآن والشرائع فبلغه واعمل به ﴿إن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ أي لا يخفي عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ﴿وتوكل على الله﴾ أي فوض أمورك إلى الله حتى لا تخاف غيره ولا ترجو إلا خيره ﴿وكفى بالله وكيلا﴾ أي قائما بتدبيرك حافظا لك ودافعا عنك ﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾ فإن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان معبودان وقيل إنه نزل في أبي معمر على ما مر بيانه عن مجاهد وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس وقيل إن المنافقين كانوا يقولون إن لمحمد قلبين ينسبونه إلى الدهاء فأكذبهم الله تعالى بذلك عن ابن عباس وقيل إن رجلا كان يقول إن لي نفسين نفسا تأمرني ونفسا تنهاني فنزل ذلك فيه عن الحسن وقيل هو رد على المنافقين والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فأما أن يؤمن وإما أن يكفر عن أبي مسلم وقيل إنه يتصل بقوله ﴿وما جعل أدعيائكم أبناءكم﴾ والتقدير أنه كما لم يجعل لرجل قلبين في جوفه لم يجعل ابن الإنسان ابنا لغيره وقيل بل يتصل بما قبله والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر والطغيان فكني عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد والاعتقاد من أفعال القلوب فكما لا يجتمع قلبان في جوف واحد لا يجتمع اعتقادان متضادان في قلب واحد وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يحب بهذا قوما ويحب بهذا أعداءهم واختلف العلماء في أنه هل يجوز أن يكون لإنسان واحد قلبان فمنع بعضهم من ذلك وقال إن ذلك يؤدي إلى أن لا ينفصل إنسان من إنسانين لأنه يصح أن يريد بأحد قلبيه ما يكرهه بالقلب الآخر فيصير كشخصين وجوز بعضهم ذلك وقال كما أن الإنسان الواحد يجوز أن يكون له قلب كثير الأجزاء ويمتنع أن يريد ببعض الأجزاء ما يكرهه البعض الآخر لأن الإرادة والكراهة وإن وجدتا في جزئين من القلب فالحالتان الصادرتان عنهما يرجعان إلى الجملة وهي جملة واحدة فاستحال اجتماع معنيين ضدين في حي واحد ويجوز أن يكون معنيان مختلفان أو مثلان في جزئين من القلب ويوجبان الصفتين للحي الواحد فكذلك القياس إذا كان المعنيان في قلبين إذا كان ما يوجد فيهما يرجع إلى حي واحد إلا أن السمع ورد بالمنع من ذلك ﴿وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم﴾ يقال ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر وهو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ فلما جاء الإسلام نهوا عنه وأوجبت الكفارة على من ظاهر من امرأته وسنذكره في سورة المجادلة والمعنى أن الله تعالى أعلمنا أن الزوجة لا تصير أما فقال وما جعل نساءكم اللائي تقولون هن علينا كظهر أمهاتنا أمهاتكم لأن أمهاتكم على الحقيقة هن اللائي ولدنكم وأرضعنكم ﴿وما جعل أدعيائكم أبناءكم﴾ الأدعياء جمع الدعي وهو الذي يتبناه الإنسان بين سبحانه أنه ليس بابن على الحقيقة ونزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود تبناه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الوحي وكان قد وقع عليه السبي فاشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوق عكاظ فلما نبىء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه إلى الإسلام فأسلم فقدم أبو حارثة مكة وأتى أبا طالب وقال سل ابن أخيك فأما أن يبيعه وإما أن يعتقه فلما قال ذلك أبو طالب لرسول الله قال هو حر فليذهب حيث شاء فأبى زيد أن يفارق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال حارثة يا معشر قريش اشهدوا أنه ليس ابني فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشهدوا أنه ابني يعني زيدا فكان يدعي زيد بن محمد فلما تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش فكانت تحت زيد بن حارثة قالت اليهود والمنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فقال الله سبحانه ما جعل الله من تدعونه ولدا وهو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم ﴿ذلكم قولكم بأفواهكم﴾ أي أن قولكم الدعي ابن الرجل شيء تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له عند الله تعالى ﴿والله يقول الحق﴾ الذي يلزم اعتقاده وله حقيقة وهو أن الزوجة لا تصير بالظهار أما والدعي لا يصير بالتبني ابنا ﴿وهو يهدي السبيل﴾ أي يرشد إلى طريق الحق ويدل عليه ﴿ادعوهم لآبائهم﴾ الذين ولدوهم وانسبوهم إليهم أو إلى من ولدوا على فراشهم ﴿هو أقسط عند الله﴾ أي أعدل عند الله قولا وحكما وروى سالم عن ابن عمر قال ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل في القرآن ﴿ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله﴾ أورده البخاري في الصحيح ﴿فإن لم تعلموا آبائهم﴾ أي لم تعرفوا بأعيانهم ﴿فإخوانكم في الدين﴾ أي فهم إخوانكم في الملة فقولوا يا أخي ﴿ومواليكم﴾ أي بنو أعمامكم قال الزجاج ويجوز أن يكون المراد أولياءكم في الدين في وجوب النصرة وقيل معناه معتقوكم ومحرروكم إذا أعتقتموهم من رق فلكم ولاؤهم ﴿وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به﴾ أي ليس عليكم حرج في نسبته إلى المتبني إذا ظننتم أنه أبوه ولم تعلموا أنه ليس بابن له فلا يؤاخذكم الله به ﴿ولكن ما تعمدت قلوبكم﴾ أي ولكن الإثم والجناح فيما تعمدت قلوبكم يعني في الذي تعمدته قلوبكم وقصدتموه من دعائهم إلى غير آبائهم فإنكم تؤاخذون به وقيل ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدتموه بعد النهي عن مجاهد ﴿وكان الله غفورا﴾ لما سلف من قولكم ﴿رحيما﴾ بكم وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الانتساب إلى غير الأب وقد وردت السنة بتغليظ الأمر فيه قال (عليه السلام) من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله.