الآيات 102-103

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴿102﴾ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿103﴾

اللغة:

البحر الشق وبحرت أذن الناقة أبحرها بحرا إذا شققتها شقا واسعا والناقة بحيرة وهي فعيلة بمعنى المفعول مثل النطيحة والذبيحة وأصل الباب السعة وسمي البحر بحرا لسعته وفرس بحر واسع الجري وفي الحديث أنه (عليه السلام) قال لفرس له وجدته بحرا والسائبة فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض ويقال سيبت الدابة أي تركتها تسيب حيث شاءت ويقال للعبد يعتق ولا ولاء عليه لمعتقه سائبة لأنه يضع ماله حيث شاء وأصله المخلاة وهي المسيبة وأخذت من قولهم سابت الحية وانسابت إذا مضت مستمرة والوصل نقيض الفصل ولعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الواصلة وهي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز أن يكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها وهذا أظهر في الآية وأنشد أهل اللغة في البحيرة :

محرمة لا يأكل الناس لحمها

ولا نحن في شيء كذاك البحائر وأنشدوا في السائبة :

وسائبة لله ما لي تشكرا

إن الله عافى عامرا ومجاشعا وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شرا :

أجدك أما كنت في الناس ناعقا

تراعي بأعلى ذي المجاز الوصائلا وأنشد في الحامي:

حماها أبو قابوس في غير كنهه

كما قد حمى أولاد أولاده الفحلا

المعنى:

ثم أخبر سبحانه أن قوما سألوا مثل سؤالهم فلما أجيبوا إلى ما سألوا كفروا فقال ﴿قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ وفيه أقوال (أحدها) أنهم قوم عيسى (عليه السلام) سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها عن ابن عباس (وثانيها) أنهم قوم صالح سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها (وثالثها) أنهم قريش حين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يحول الصفا ذهبا عن السدي (ورابعها) أنهم كانوا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مثل هذه الأشياء يعني من أبى ونحوه فلما أخبرهم بذلك قالوا ليس الأمر كذلك فكفروا به فيكون على هذا نهيا عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أنساب الجاهلية لأنهم لو سألوا عنها ربما ظهر الأمر فيها على خلاف حكمهم فيحملهم ذلك على تكذيبه عن أبي علي الجبائي فإن قيل ما الذي يجوز أن يسأل عنه وما الذي لا يجوز فالجواب إن الذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينية أو الدنيوية وما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين والدنيا لا يجوز السؤال عنه فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي لأن المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كل من ولد على فراش إنسان بأنه ولده وإن لم يكن مخلوقا من مائه فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز ثم ذكر سبحانه الجواب عما سألوه عنه وقيل إنه لما تقدم ذكر الحلال والحرام بين حال ما يعتقده أهل الجاهلية من ذلك فقال ﴿ما جعل الله من بحيرة﴾ يريد ما حرمها على ما حرمها أهل الجاهلية من ذلك ولا أمر بها والبحيرة هي الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع من مرعى فإذا لقيها المعيي لم يركبها عن الزجاج وقيل إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا وإن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر ولا يذكر عليها اسم الله إن ذكيت ولا حمل عليها وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا ولا أن ينتفعن بها وكان لبنها ومنافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال والنساء في أكلها عن ابن عباس وقيل إن البحيرة بنت السائبة عن محمد بن إسحاق ﴿ولا سائبة﴾ وهي ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأن لا تخلى عن ماء ولا تمنع من مرعى عن الزجاج وهو قول علقمة وقيل هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدمة آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وقيل إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلي سبيلها مع أمها وهي البحيرة عن محمد بن إسحاق ﴿ولا وصيلة﴾ وهي في الغنم كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم عن الزجاج وقيل كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم ولحمه للرجال دون النساء وإن كان عناقا استحيوها وكانت من عرض الغنم وإن ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا إن الأخت وصلت أخاها فحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء عن ابن مسعود ومقاتل وقيل الوصيلة الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمد بن إسحاق ﴿ولا حام﴾ وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا من مرعى عن ابن عباس وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج وقيل إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل حمي ظهره فلا يركب عن الفراء أعلم الله أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا وقال المفسرون وروى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن عمرو ابن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل واتخذ الأصنام ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه ويروى يجر قصبه في النار ﴿ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب﴾ هذا إخبار منه تعالى إن الكفار يكذبون على الله بادعائهم إن هذه الأشياء من فعل الله أوامره ﴿وأكثرهم لا يعقلون﴾ خص الأكثر بأنهم لا يعقلون لأنهم أتباع فهم لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء كما يعقله الرؤساء عن قتادة والشعبي وقيل إن معناه أن أكثرهم لا يعقلون ما حرم عليهم وما حلل لهم يعني أن المعاند هو الأقل منهم عن أبي علي الجبائي وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه نفي أن يكون جعل البحيرة وغيرها وعندهم أنه سبحانه هو الجاعل والخالق له ثم بين أن هؤلاء قد كفروا بهذا القول وافتروا على الله الكذب بأن نسبوا إليه ما ليس بفعل له وهذا واضح.