الآيات 46-52

وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴿46﴾ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿47﴾ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿48﴾ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴿49﴾ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴿50﴾ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿51﴾ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿52﴾

القراءة:

قرأ الكسائي وحده لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية والباقون ﴿لتزول﴾ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية وفي الشواذ عن علي (عليه السلام) وعمرو بن مسعود وأبي بن كعب وإن كاد مكرهم لتزول وقرأ زيد عن يعقوب من قطر آن على كلمتين منونتين وهو قراءة أبي هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير والكلبي وقتادة وعيسى الهمداني والربيع وقرأ سائر القراء ﴿قطران﴾.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ ﴿لتزول﴾ بالنصب فإن إن هي النافية فيكون مثل قوله وما كان الله ليطلعكم على الغيب فمعناه وما كان مكرهم لتزول منه الجبال والجبال كأنه أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإعلامه ودلائله أي ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته ومن قرأ لتزول كانت إن هي المخففة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم بخلاف القراءة الأولى فيكون كقوله ومكروا مكرا كبارا أي قد كان مكرهم لعظمه وكبره يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع على من أراد إزالتها وثباتها ومثل هذا في التعظيم للأمر قول الشاعر:

ألم تر صدعا في السماء مبينا

على ابن لبينى الحارث بن هشام وقال:

بكى الحارث الجولان من موت ربه

وحوران منه خاشع متضائل قال أوس:

ألم تكسف الشمس شمس النهار

مع النجم والقمر الواجب ويدل على أن الجبال يعني بها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قوله بعد ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ أي فقد وعد الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله ليظهره على الدين كله وقوله للذين كفروا ستغلبون وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا الموضع في تعظيم الشيء وتفخيمه قال ابن مقبل:

إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى

لها شاعرا مثلي أطب وأشعرا

وأكثر بيتا شاعرا ضربت به

بطون جبال الشعر حتى تيسرا ومن قرأ وإن كاد مكرهم لتزول فهي مخففة من الثقيلة أيضا فتقديره وأنه كاد مكرهم لتزول منه الجبال قال ابن جني القطر الصفر والنحاس وهو أيضا الفلز رويناه عن قطرب وهو أيضا الصاد ومنه قدور الصاد أي قدور الصفر والآني الذي قد أنى وأدرك أنى الشيء يأني أنيا وأنا مقصور ومنه قوله عز سبحانه غير ناظرين إناه أي بلوغه وإدراكه قال أبو علي ومنه الإناء لأنه الظرف الذي قد بلغ غايته المرادة منه من حرز وصياغة ونحو ذلك قال أمية:

وسليمان إذ يسيل له القطر

على ملكه ثلاث ليال وأما القطران ففيه ثلاث لغات قطران على فعلان وقطران بفتح القاف وإسكان الطاء وقطران بكسر القاف وإسكان الطاء والأصل فيهما قطران فأسكنا على ما يقال في كلمة كلمة وكلمة لغة تميمية قال أبو النجم:

جون كان العرق المنتوحا

ألبسه القطران والمسوحا وقال:

كان قطرانا إذا تلاها

ترمي به الريح إلى مجراها.

اللغة:

البروز الظهور والأصفاد جمع الصفد وهو الغل الذي يقرن به اليد إلى العنق ويجوز أن يكون السلسلة التي يقع بها التقرين والتقرين جمع الشيء إلى نظيره والقران الحبل يقرن به شيئان يقال صفدته بالحديد وأصفدته وصفدته قال عمرو بن كلثوم:

فأبوا بالنهاب وبالسبايا

وأبنا بالملوك مصفدينا

ومنه أصفدته إصفادا إذا أعطيته مالا والصفد العطية وهو من الأول لأن العطية تصفد المودة وتقيدها وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:

ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا والاختبار في الحديد صفدته وفي العطية أصفدته قال الأعشى:

تضيفته يوما فقرب مجلسي

وأصفدني على الزمانة قائدا ومعناه وأعطاني قايدا وقال النابغة في الصفد الذي هو العطية:

هذا الثناء فإن تسمع لقائله

فما عرضت أبيت اللعن للصفد والسربال القميص قال امرؤ القيس:

ومثلك بيضاء العوارض طفلة

لعوب تنسيني إذا قمت سربالي والبلاغ الكفاية ومنه البلاغة وهو البيان الكافي والبليغ هو الذي يبلغ بلسانه كنه ما في ضميره.

الإعراب:

﴿مخلف وعده رسله﴾ إضافة مخلف إلى وعده إضافة غير محضة لأنها في تقدير الانفصال ووعده وإن كان مجرورا في اللفظ فإنه منصوب في المعنى لأنه مفعول في المعنى فإن الإخلاف يقتضي مفعولين يقال أخلفت زيدا وعده فعلى هذا يكون تقديره مخلفا وعده رسله وقيل أنه قرأ في الشواذ مخلف وعده بالنصب رسله بالجر وهي رديئة للفصل بين المضاف والمضاف إليه وأنشدوا في ذلك:

فزججتها بمزجة

زج القلوص أبي مزادة

ومعناه فزججتها زج أبي مزادة القلوص والعامل في قوله ﴿يوم تبدل الأرض﴾ قوله ﴿مخلف وعده﴾ أو ﴿انتقام﴾ أي ينتقم ذلك اليوم أو يكون محذوفا على تقدير واذكر يوم تبدل الأرض وإن شئت جعلته نعتا لقوله يوم يقوم الحساب والأرض مرفوعة على ما لم يسم فاعله وغير منصوب على أنه مفعول ما لم يسم فاعله تقول بدل الخاتم خاتما آخر إذا كسر وصيغ صيغة أخرى وقد تقول بدل زيد إذا تغير حاله.

المعنى:

ثم أبان سبحانه عن مكر الكفار ودفعه ذلك عن رسله (عليهم السلام) تسلية لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿وقد مكروا مكرهم﴾ أي وقد مكروا بالأنبياء قبلك ما أمكنهم من المكر كما مكروا بك فعصمهم الله من مكرهم كما عصمك وقيل عنى به كفار قريش الذين دبروا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واحتالوا عليه ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم ﴿وعند الله مكرهم﴾ أي جزاء مكرهم فحذف المضاف كما حذف من قوله ﴿ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا﴾ وهو واقع بهم أي جزاؤه يريد وقد عرف الله مكرهم فهو يجازيهم عليه ﴿وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال﴾ أي ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن وما معك من دلائل النبوات فإن ذلك ثابت بالدليل والبرهان والمعنى لا تزول منه الجبال فكيف يزول منه الدين الذي هو أثبت من الجبال وعلى القراءة الأخرى فالمعنى أن مكرهم وإن بلغ كل مبلغ فلا يزيل دين الله تعالى على ما تقدم بيانه ولا يضر ذلك أنبياءه ولا يزيل أمرهم ولا سيما أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنه أثبت من الجبال وقد قيل إن المراد به نمرود بن كوش بن كنعان حين أخذ التابوت وأخذ أربعة من النسور فأجاعها أياما وعلق فوقها لحما وربط التابوت إليها وطارت النسور بالتابوت وهو ووزيره فيه إلى أن بلغت حيث شاء الله تعالى وظن أنه بلغ السماء ففتح باب التابوت من أعلاه فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض وفتح بابا من أسفل التابوت فرأى الأرض قد غابت عنه فهاله الأمر فصوب النسور وسقط التابوت وكانت له وجبة عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ أي فلا تظنن الله عز اسمه مخلفا رسله ما وعدهم به من النصر والظفر بالكفار والظهور عليهم ﴿إن الله عزيز﴾ أي ممتنع بقدرته من أن ينال باهتضام وهو من الكفار ﴿ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات﴾ قيل فيه قولان (أحدهما) إن المعنى تبدل صورة الأرض وهيئتها عن ابن عباس فقد روي عنه أنه قال تبدل آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها والأرض على حالتها وتبقى أرضا بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة وتبدل السماوات فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها وكان ينشد:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

ويعضده ما رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يبدل الله الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة مثل مواضعهم من الأولى. ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها (والآخر) أن المعنى تبدل الأرض وتنشأ أرض غيرها والسماوات كذلك تبدل بغيرها وتفنى هذه عن الجبائي وجماعة من المفسرين وفي تفسير أهل البيت (عليهم السلام) بالإسناد عن زرارة ومحمد بن مسلم وحمران بن أعين عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا تبدل الأرض خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب قال الله تعالى وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وهو قول سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وروى سهل بن سعد الساعدي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد وروي عن ابن مسعود أنه قال تبدل الأرض بنار فتصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها يرى كواعبها وأكوابها ويلجم الناس العرق ولم يبلغ الحساب بعد وقال كعب تصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر النار وتبدل الأرض غيرها وروي عن أبي أيوب الأنصاري قال أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حبر من اليهود فقال أ رأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات﴾ فأين الخلق عند ذلك فقال أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه وقيل تبدل الأرض لقوم بأرض الجنة ولقوم بأرض النار وقال الحسن يحشرون على الأرض الساهرة وهي أرض غير هذه وهي أرض الآخرة وفيها تكون جهنم وتقدير الكلام وتبدل السماوات غير السماوات إلا أنه حذف لدلالة الظاهر عليه ﴿وبرزوا لله﴾ أي يظهرون من أرض قبورهم للمحاسبة لا يسترهم شيء وجعل ذلك بروزا لله لأن حسابهم معه وإن كانت الأشياء كلها بارزة له لا يسترها عنه شيء ﴿الواحد﴾ الذي لا شبه له ولا نظير ﴿القهار﴾ المالك الذي لا يضام يقهر عباده بالموت الزؤام ﴿وترى المجرمين﴾ يعني الكفار عن ابن عباس والحسن وهو الظاهر لأنه تقدم ذكرهم ﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة ﴿مقرنين في الأصفاد﴾ أي مجمعين في الأغلال قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم وقيل يقرن بعضهم إلى بعض عن الجبائي وقيل مشدودين في قرن أي حبل من الأصفاد والقيود عن أبي مسلم وقيل يقرن كل كافر مع شيطان كان يضله في غل من حديد عن ابن عباس والحسن ويبينه قوله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي قرناءهم من الشياطين وقوله وإذا النفوس زوجت ﴿سرابيلهم﴾ أي قميصهم ﴿من قطران﴾ وهو ما يطلى به الإبل شيء أسود لزج منتن يطلون به فيصير كالقميص عليهم ثم يرسل النار فيهم لتكون أسرع إليهم وأبلغ في الاشتعال وأشد في العذاب عن الحسن والزجاج وقيل نحاس أو صفر مذاب قد انتهى حره عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وجوز الجبائي على القراءتين أن يسربلوا سربالين أحدهما من القطران والآخر من القطر الآني ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ أي وتصيب وجوههم النار لا قطران عليها ﴿ليجزي الله كل نفس ما كسبت﴾ اللام تعلقت بما تقدم أخبر سبحانه أنه إنما فعل ذلك بهم لتجزى كل نفس بما كسبت خيرا بأن آمنت وأطاعت أثابها الله بالنعيم المقيم وإن كسبت شرا بأن كفرت وجحدت عاقبها بالعذاب الأليم في نار الجحيم ﴿إن الله سريع الحساب﴾ أي سريع المجازاة وقد سبق بيانه ﴿هذا بلاغ للناس﴾ هو إشارة إلى القرآن عن ابن عباس والحسن وابن زيد وغيرهم أي هذا القرآن عظة للناس بالغة كافية وقيل هو إشارة إلى ما تقدم ذكره أي هذا الوعيد كفاية لمن تدبره من الناس والأول هو الصحيح ﴿ولينذروا به﴾ أي أنزل ليبلغوا وينذروا به وليخوفوا بما فيه من الوعيد ﴿وليعلموا أنما هو إله واحد﴾ لا شريك له بالنظر في أدلة التوحيد التي بينها الله في القرآن ﴿وليذكر أولوا الألباب﴾ أي وليتعظ به أهل العقول وذوو النهى وفي هذه الآية دلالة على أن القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه في أمور الدين لأن جميع أمور الدين جملها وتفاضيلها يعلم بالقرآن إما بنفسه وإما بواسطة فيجب على المؤمن المجتهد المهتم بأمور الدين أن يشمر عن ساق الجد في طلب أمور القرآن ويصدق عنايته بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة ومواضع البيان مكتفيا به عما سواه لينال السعادة في دنياه وعقباه وفي قوله ﴿وليعلموا أنما هو إله واحد﴾ دلالة على أنه سبحانه أراد من الناس علم التوحيد خلافا لأهل الجبر في قولهم أنه سبحانه أراد من النصارى إثبات التثليث ومن الزنادقة القول بالتثنية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وفي قوله ﴿ليذكر﴾ دلالة على أنه أراد من الجميع التدبر والتذكر وعلى أن العقل حجة لأن غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر والاعتبار.

النظم:

اتصلت الآية الثانية بقوله ﴿وعند الله مكرهم﴾ أي فلا تحسبوا أن الله يخلف وعده بل يجازيهم وينصر رسله وقيل اتصلت بقوله ﴿إنما يؤخرهم﴾ أي فلا تحسبوه مخلف وعده في العقوبة للكفار بل إن شاء أخر وإن شاء عجل واتصل قوله ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض﴾ بقوله ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ أي لا يخلفهم وعده لا في الدنيا ولا في الآخرة عن أبي مسلم وقيل المراد به أنه ذو انتقام من الكفار ذلك اليوم واتصل قوله ﴿ليجزي الله كل نفس ما كسبت﴾ بقوله ﴿يوم تبدل الأرض﴾.