الآية- 89

لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وحده عاقدتم برواية ابن ذكوان وقرأ أهل الكوفة غير حفص عقدتم بالتخفيف والباقون بالتشديد وروي أن قراءة جعفر بن محمد (عليهما السلام) تطعمون أهاليكم.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ ﴿عقدتم﴾ مشددة القاف احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون لتكثير الفعل (والآخر) أن لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل الاثنين ومن قرأ عقدتم خفيفة جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل إلا أن فعل يختص بالكثير كما أن الركبة يختص الحال التي يكون عليها الركوب ومن قرأ عاقدتم احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون يراد به عقدتم كما أن عافاه الله وعاقبت اللص وطارقت النعل بمنزلة فعلت فيكون على هذا قراءته كقراءة من خفف ويحتمل أن يراد بعاقدتم فاعلت الذي يقتضي فاعلين فصاعدا كأنه قال يؤاخذكم بما عقدتم عليه اليمين ولما كان عاقد في المعنى قريبا من عاهد عداه بعلى كما يعدى عاهد بها قال ومن أوفى بما عاهد عليه الله واتسع فحذف الجار ووصل الفعل إلى المفعول ثم حذف من الصلة الضمير الذي كان يعود إلى الموصول كما حذفه من قوله فاصدع بما تؤمر ومثله قول الشاعر:

كأنه واضح الأقراب في لقح

أسمى بهن وعزته الأناصيل

إنما هو عزت عليه فاتسع والتقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه الأيمان ثم عاقدتموه الأيمان فحذف الراجع ويجوز أن يجعل ما التي مع الفعل بمعنى المصدر فيمن قرأ عقدتم وعقدتم فلا يقتضي راجعا كما لا يقتضيه في قوله ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وقوله فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا ب آياتنا يجحدون وأما قوله أهاليكم فإن أهالي كليالي كان واحدها أهلاة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي:

في كل يوم ما وكل ليلاه

يا ويحه من جمل ما أشقاه ومن قال أهالي جمع أهلون فقد أبعد لأن هذا الجمع لا يكسر.

اللغة:

اللغو في اللغة ما لا يعتد به قال الشاعر :

أو مائة تجعل أولادها

لغوا وعرض المائة الجلمد

أي الذي يعارضها في قوة الجلمد يعني بالمائة نوقا أي لا يعتد بأولادها ولغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد مثل قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان هذا هو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) يقال عقدت الحبل والعهد واليمين عقدا قال الحطيئة:

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم البيت وقال في بيت آخر:

وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا وأعقدت العسل فهو معقد وعقيد والتحرير من الحرية قال الفرزدق:

أبني غدانة إنني حررتكم

فوهبتكم لعطية بن جعال يريد أعتقتكم من ذل الهجا ولزوم العار.

النزول:

قيل لما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا فأنزل الله هذه الآية وقيل نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل أن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فقال له أحسنت عن ابن زيد.

المعنى:

﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ مضى الكلام في لغو اليمين وحكمه في سورة البقرة ولا كفارة فيه عند أكثر المفسرين والفقهاء إلا ما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيها الكفارة ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ إن جعلت ما موصولة فمعناه بالذي عقدتم وإن جعلته مصدرية فمعناه بعقدكم أو بتعقيدكم الأيمان أو بمعاقدتكم الأيمان وتفسيره أن يضمر الأمر ثم يحلف بالله فيعقد عليه اليمين عن عطاء وقيل هو ما عقدت عليه قلبك وتعمدته عن مجاهد ﴿فكفارته﴾ أي كفارة ما عقدتم إذا حنثتم واستغني عن ذكره لأنه مدلول عليه لأن الأمة قد اجتمعت على أن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث ﴿طعام عشرة مساكين﴾ واختلف في مقدار ما يعطى كل مسكين فقال الشافعي مد من طعام وهو ثلثا من وقال أبو حنيفة نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر وكذلك سائر الكفارات وقال أصحابنا يعطى كل واحد مدين أو مدا والمد رطلان وربع ويجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوه ولا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة فإن كان المساكين ذكورا وإناثا جاز ذلك ولكن وقع بلفظ التذكير لأنه يغلب في كلام العرب ﴿من أوسط ما تطعمون أهليكم﴾ قيل فيه قولان (أحدهما) الخبز والأدم لأن أفضله الخبز واللحم وأدونه الخبز والملح وأوسطه الخبز والسمن والزيت (والآخر) أنه الأوسط في المقدار أي تعطيهم كما تعطي أهلك في العسر واليسر عن ابن عباس ﴿أو كسوتهم﴾ قيل لكل واحد منهم ثوب عن الحسن ومجاهد وعطاء وطاووس وهو مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة ما يقع عليه اسم الكسوة والذي رواه أصحابنا أن لكل واحد ثوبين مئزرا وقميصا وعند الضرورة يجزي قميص واحد ﴿أو تحرير رقبة﴾ معناه عتق رقبة عبد أو أمة والرقبة يعبر بها عن جملة الشخص وهو كل رقبة سليمة من العاهات صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة لأن اللفظة مطلقة مبهمة إلا أن المؤمن أفضل وهذه الثلاثة واجبة على التخيير وقيل إن الواجب منها واحد لا بعينه وفائدة هذا الخلاف والكلام في شرحها وفي الأدلة على صحة المذهب الأول مذكور في أصول الفقه ﴿فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام﴾ معناه فكفارته صيام ثلاثة أيام فيكون صيام مرفوعا بأنه خبر المبتدأ أو فعليه صيام ثلاثة أيام فيكون صيام مرفوعا بالابتداء أو بالظرف وحد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته وبه قال الشافعي ويجب التتابع في صوم هذه الأيام الثلاثة وبه قال أبي وابن عباس ومجاهد وقتادة وأكثر الفقهاء وفي قراءة ابن مسعود وأبي ثلاثة أيام متتابعات واليمين على ثلاثة أقسام (أحدها) ما يكون عقدها طاعة وحلها معصية وهذه تتعلق بحنثها الكفارة بلا خلاف وهو كما لو قيل والله لا شربت خمرا (والثاني) أن يكون عقدها معصية وحلها طاعة كما يقال والله لا صليت وهذا لا كفارة في حنثه عند أصحابنا وخالف سائر الفقهاء في ذلك (والثالث) أن يكون عقدها مباحا وحلها مباحا كما يقول والله لا لبست هذا الثوب وهذه تتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف أيضا ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الكفارة ﴿كفارة أيمانكم إذا حلفتم﴾ يعني إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بنفس اليمين وإنما تجب باليمين والحنث وقيل تجب بالحنث بشرط تقدم اليمين واختلف فيمن كفر بعد اليمين قبل الحنث فقال أبو حنيفة لا تجزي وقال الشافعي تجزي ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ قيل في معناه قولان قال ابن عباس يريد لا تحلفوا وقال غيره احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا وهو اختيار الجبائي وهذا هو الأقوى لأن الحلف مباح إلا في معصية بلا خلاف وإنما الواجب ترك الحنث وفيه دلالة على أن اليمين في المعصية لا تنعقد لأنها لو انعقدت للزم حفظها وإذا كانت لا تنعقد فلا يلزم فيها الكفارة ﴿كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون﴾ معناه كما بين أمر الكفارة وجميع الأحكام يبين لكم آياته وفروضه لتشكروه على تبيينه لكم أموركم ونعمه عليكم.