الآيات 70-71

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴿70﴾ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿71﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ألا تكون بالرفع والباقون بالنصب ولم يختلفوا في رفع ﴿فتنة﴾.

الحجة:

من قرأ ألا تكون فتنة بالرفع جعل أن مخففة من الثقيلة وأضمر الهاء وجعل حسبوا بمعنى العلم وعلى هذا الوجه تثبت النون في الخط وأما النصب فعلى أنه جعل أن الناصبة للفعل ولم يجعل حسبوا بمعنى العلم وعلى هذا الوجه تسقط النون من الخط.

اللغة:

الهوى هو لطف محل الشيء من النفس مع الميل إليه بما لا ينبغي فلذلك غلب على الهوى صفة الذم ويقال هوى يهوى هوى وهوى يهوي هويا إذا انحط من الهوي وأهوى بيده إذا انحط بها ليأخذ شيئا وهاوية جهنم لأنها يهوي فيها وهم يتهاوون في المهواة إذا سقط بعضهم على بعض والفرق بين الهوى والشهوة أن الشهوة تتعلق بالمدركات فيشتهي الإنسان الطعام ولا يهوى الطعام والحسبان هو قوة أحد النقيضين في النفس على الآخر وأصله الحساب فالنقيض القوي يحتسب به دون الآخر أي هو مما يحتسب ولا يطرح ومنه الحسب لأنه مما يحتسب ولا يطرح لأجل الشرف ومنه قولهم حسبك أي يكفيك لأنه بحساب الكفاية ومنه احتساب الأجر لأنه فيما يحتسب ولا يلغى والفتنة هاهنا العقوبة وأصله الاختبار ومنه افتتن فلان بفلانة إذا هويها لأنه ظهر ما يطوي من خبره بها وفتنت الذهب بالنار إذا خلصته ليظهر خبره في نفسه متميزا من شائب غيره.

الإعراب:

اللام في لقد لام القسم ونصب فريقا في الموضعين بأنه مفعول به قال أبو علي الفارسي الأفعال على ثلاثة أضرب فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره وذلك نحو العلم واليقين والتبيين وفعل يدل على خلاف الاستقرار والثبات وفعل يجذب مرة إلى هذا القبيل ومرة إلى هذا القبيل فما كان معناه العلم وقع بعده أن الثقيلة ولم يقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل وذلك أن الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره والعلم بأنه كذلك أيضا وقع عليه واستعمل معه كان وفقه وأن الناصبة للفعل لا تقع على ما كان ثابتا مستقرا فمن استعمال الثقيلة بعد العلم قوله ويعلمون أن الله هو الحق المبين ألم يعلم بأن الله يرى لأن الباء زائدة وأما ما كان معناه ما لم يثبت ولم يستقر فنحو أطمع وأخاف وأرجو وأخشى ونحو ذلك ويستعمل بعده الخفيفة الناصبة للفعل قال تعالى والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي وتخافون أن يتخطفكم الناس فخشينا أن يرهقهما وأما ما يجذب مرة إلى هذا الباب ومرة إلى هذا الباب فنحو حسبت وظننت وزعمت وهذا النحو يجعل مرة بمنزلة أرجو وأطمع من حيث كان أمرا غير مستقر ومرة يجعل بمنزلة العلم من حيث يستعمل استعماله ومن حيث كان خلافه والشيء قد يجري مجرى الخلاف نحو عطشان وريان فأما استعمالهم إياه استعمال العلم فهو أنهم قد أجابوه بجواب القسم حكى سيبويه ظننت لتسبقني وظنوا ما لهم من محيص كما قالوا ولقد علمت لتأتين منيتي ولقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض وكلهم قرأ ﴿فتنة﴾ بالرفع لأنهم جعلوا كان بمنزلة وقع ولو نصب فقيل أن لا تكون فتنة على أن لا يكون قوله ﴿فتنة﴾ لكان جائزا في العربية وإنما رفع لاتباع الأثر وإنما حسن وقوع أن الخفيفة من الشديدة في قراءة من رفع وإن كان بعده فعل لدخول لا ولكونها عوضا عن حذف الضمير معه وإيلائه ما لم يكن يليه ولو قلت علمت أن تقول لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا نحو قد ولا والسين وسوف كما في قوله علم أن سيكون منكم مرضى فإن قلت قد جاء وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلم يدخل بين أن وليس شيء فإنما جاء هذا لأن ليس ليس بفعل على الحقيقة وأما قوله ﴿كثير منهم﴾ فيرتفع من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من الواو في عموا وصموا (والثاني) أن يكون خبر مبتدإ محذوف كأنه قال ذو العمى والصمم كثير منهم (والثالث) أن يكون على لغة أكلوني البراغيث وعليه قول الشاعر:

يلومونني في اشتراء النخيل

أهلي فكلهم يعذل وقال الفرزدق:

ألقيتا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقية وقال الهذلي:

ولكن ديافي أبوه وأمه

بحوران يعصرن السليط أقاربه.

المعنى:

ثم أقسم سبحانه بأنه أخذ عليهم الميثاق فقال ﴿لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ يريد الإيمان المؤكدة التي أخذها أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد والإقرار به وقيل أخذ ميثاقهم على الإخلاص في التوحيد والعمل بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه والتصديق برسله والبشارة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ووجه الاحتجاج عليهم بذلك وإن كان أخذ الميثاق على آبائهم أنهم عرفوا ذلك في كتبهم وأقروا بصحته فالحجة لازمة لهم وعتب المخالفة يلحقهم كما يلحق آباءهم ﴿وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم﴾ أي مما لا تهوى أنفسهم أي بما لا يوافق مرادهم ﴿فريقا كذبوا وفريقا يقتلون﴾ أي كذبوا طائفة وقتلوا طائفة فإن قيل لم عطف المستقبل على الماضي فجوابه ليدل على أن ذلك من شأنهم ففيه معنى كذبوا وقتلوا ويكذبون ويقتلون مع أن قوله ﴿يقتلون﴾ فاصلة يجب أن يكون موافقا لرءوس الآي ويمكن أن يقال التقدير فيه فريقا كذبوا لم يقتلوه وفريقا كذبوا يقتلون فيكون يقتلون صفة للفريق ولم يكن فيه عطف المستقبل على الماضي وعلى الجواب الأول لم يكن كذبوا ويقتلون صفة للفريق لأن التقدير كذبوا فريقا ويقتلون فريقا وقد ذكرنا تفسير الفريقين في سورة البقرة عند قوله ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴿وحسبوا﴾ أي وظنوا ﴿ألا تكون فتنة﴾ أي عقوبة على قتلهم وتكذيبهم يريد وظنوا أن الله لا يعذبهم عن عطاء عن ابن عباس وقيل حسب القوم أن لا يكون بلية عن قتادة والحسن والسدي وقيل فتنة أي شدة وقحط عن مقاتل والكل متقارب وقيل وحسبوا فعلهم غير فاتن لهم وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه عن الزجاج وقيل معناه وقدروا أن لا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر وظنوا أن ذلك لا يكون موبقا لهم عن ابن الأنباري ﴿فعموا وصموا﴾ على التشبيه بالأعمى والأصم لأنه لا يهتدي إلى طريق الرشد في الدين لإعراضه عن النظر كما لا يهتدي هذا إلى طريق الرشد في الدنيا لأجل عماه وصممه ﴿ثم تاب الله عليهم﴾ يريد أن فريقا منهم تابوا فتاب الله عليهم ﴿ثم عموا وصموا﴾ أي عادوا إلى ما كانوا عليه يريد فلما انقضت تلك القرون ونشأت قرون أخر تخلقوا بأخلاق آبائهم فعموا عن الحق وصموا عن استماعه وقيل معناه لما تابوا دفع الله عنهم البلاء ثم صار ﴿كثير منهم﴾ كما كانوا وقيل أراد بكثير منهم من كان في عصر نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿والله بصير بما يعملون﴾ أي عليم بأعمالهم وهذا كالوعيد لهم.