الآية- 64

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿64﴾

اللغة:

اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه الجارحة والنعمة والقوة والملك وتحقيق إضافة الفعل فالنعمة في قولهم لفلان عندي يد أشكرها أي نعمة قال عدي بن زيد:

ولن أذكر النعمان إلا بصالح

فإن له عندي يديا وأنعما

جمع يدا على يدي كالكليب والعبيد وحسن التكرار لاختلاف اللفظين واليد للقوة في نحو قوله تعالى أولي الأيدي والأبصار أي ذوي القوى والعقول وأنشد الأصمعي للغنوي:

فاعمد لما تعلو فما لك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان يريد ليس لك به قوة وعلى هذا ما ذكره سيبويه من قولهم لا يدين بها لك ومعنى هذه التثنية المبالغة في نفي الاقتدار والقوة على الشيء واليد بمعنى الملك في نحو قوله الذي بيده عقدة النكاح أي يملك ذلك وهذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه واليد بمعنى التولي للشيء وإضافة الفعل في نحو قوله تعالى لما خلقت بيدي أي لما توليت خلقه تخصيصا لآدم وتشريفا له بهذا وإن كان جميع المخلوقات هو خلقها لا غير وتقول يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا وكان معناه اجتهادي وطاقتي وتستعمل أيضا حيث تراد النصرة وذلك مثل ما جاء في الحديث وهم يد على من سواهم أي نصرتهم واحدة وكلمتهم مجتمعة على من تشق عصاهم قال أحمد بن يحيى بن تغلب اليد الجماعة ومنه الحديث وهم يد على من سواهم وقد يستعار اليد للشيء الذي لا يد له تشبيها بمن له اليد قال ابن الأعرابي يد الدهر الدهر كله يقال لا آتية يد الدهر ويد المسند قال ذو الرمة:

ألا طرقت مي هيوما بذكرها

وأيدي الثريا جنح في المغارب

وأصل هذه الاستعارة لثعلبة بن صعير في قوله:

ألقت ذكاء يمينها في كافر

فجعل للشمس يدا في المغيب لما أراد أن يصفها بالغروب ثم للبيد في قوله:

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها وقد يستعار اليد في مواضع كثيرة يطول ذكرها ولما كان الجواد ينفق باليد والبخيل يمسك باليد عن الإنفاق أضافوا الجود والبخل إلى اليد فقالوا للجواد اليد وبسط البيان فياض الكف وللبخيل كز الأصابع مقبوض الكف جعل الأنامل في أشباه لهذا كثيرة معروفة في أشعارهم وأنكر الزجاج على من ذهب إلى أن معنى اليد في الآية النعمة بأن قال إن هذا ينقضه قوله ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ فيكون المعنى بل نعمتاه مبسوطتان ونعم الله أكثر من أن تحصى قال أبو علي الفارسي قوله نعمتاه مبسوطتان لا يدل على تقليل النعمة وعلى أن نعمته نعمتان ثنتان ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة فقد جاء التثنية ويراد به الكثرة والمبالغة وتعداد الشيء لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد ألا ترى إلى قولهم لبيك إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة وكذلك سعديك إنما هو مساعدة بعد مساعدة وليس المراد بذلك طاعتين اثنتين ولا مساعدتين فكذلك المعنى في الآية أن نعمه متظاهرة متتابعة فهذا وجه وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا والآخر نعمة الآخرة أو نعمة الدين فلا يكون التثنية على هذا مرادا بها اثنتين وقد جاء الجنس في كلامهم مجيئا واسعا قال الفرزدق:

وكل رفيقي كل رحل وإن هما

تعاطى القنا قوما هما أخوان

فتأويل الرفيقين في البيت العموم والإشاعة أ لا ترى أنه لا يجوز أن يكون رفيقان اثنان لكل رحل وبعده فإذا كانوا قد استجازوا تثنية الجمع الذي بني للكثرة كقوله :

لأصبح القوم أوبادا ولم يجدوا

عند التفرق في الهيجا جمالين وقبله:

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين وقول أبي النجم:

بين رماحي نهشل وعقيل ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم لقاحان سوداوان فإن تجوز تثنية اسم الجنس أجدر لأنه على لفظ الواحد فالتثنية فيه أحسن إذ هو أشبه بألفاظ الإفراد.

الإعراب:

قال أبو علي اعلم أن يدا كلمة نادرة ووزنها فعل يدلك على ذلك قولهم أيد وجمعهم له على أفعل كأكلب وأنفس يدل على أنه فعل كما دل آباء وآخاء على أن وزن أب وأخ فعل واللام منه الياء وهو من باب سلس وقلق لا يعلم لذلك في الكلام نظير والذي يدل على ذلك يديت إليه يدا ولا يعلم في الواو مثله أ لا ترى أنه لم يجيء مثل دعوت وقد جاء في الأسماء ذلك وهو قولهم واو وأما قولهم ذهبوا أيادي سبإ إذا أرادوا الافتراق وقول ذي الرمة:

فيا لك من دار تحمل أهلها

أيادي سبإ بعدي وطال احتيالها

وهو في موضع حال لأنه كقولك ذهبوا متفرقين وإذا كان كذلك لا يصلح إضافتها لأن سبأ معرفة فيكون المضاف إليه معرفة فإذا كان معرفة وجب أن لا يكون حالا قال والوجه فيها عندي أن لا يقدر فيها الإضافة ولكن يجعل الاسمان بمنزلة اسم واحد كحضرموت فيمن لم يضف وكان القياس أن يتحرك اللام من أيادي بالفتح في موضع النصب إلا أنهم أسكنوه ولم يحركوه وشبهوه بالحالتين الأخيرتين وهذا الضرب قد اطرد فيه الإسكان فقالوا معديكرب وقالي وبادي بدا فأسكنوا جميع ذلك.

المعنى:

ثم أخبر الله تعالى بعظيم فريتهم فقال ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة﴾ أي مقبوضة عن العطاء ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك قالوا إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكذبوه كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة فقال عند ذلك فنحاص بن عازورا ﴿يد الله مغلولة﴾ ولم يقل إلى عنقه قال أهل المعاني إنما قال فنحاص ولم ينهه الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم الله في ذلك وقيل معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل عن الحسن وقيل إنه استفهام وتقديره أيد الله مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا وقال أبو القاسم البلخي يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله يبخل في حال ويجود في حالة أخرى فحكى عنهم ذلك على وجه التعجيب منهم والتكذيب لهم ويجوز أن يكونوا قالوا ذلك على وجه الهزء من حيث لم يوسع على النبي وعلى أصحابه وليس ينبغي أن يتعجب من قوم يقولون لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ويتخذون العجل إلها أن يقولوا إن الله يبخل تارة ويجود أخرى وقال الحسين بن علي المغربي حدثني بعض اليهود بمصر أن طائفة منهم قالت ذلك ﴿غلت أيديهم﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أنه على سبيل الإخبار أي غلت أيديهم في جهنم عن الحسن واختاره الجبائي ومعناه شدت إلى أعناقهم وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بهذا الجزاء فعلى هذا يكون في الكلام ضمير الفاء أو الواو وتقديره فغلت أيديهم أو وغلت لأن كلامهم قد تم واستؤنف بعده كلام آخر ومن عاداتهم أنهم يحذفون فيما يجري هذا المجرى ومن ذلك قوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أ تتخذنا هزوا والمراد فقالوا لأن كلام موسى قد تم (وثانيها) أن يكون القول خرج مخرج الدعاء كما يقال قاتله الله عن أبي مسلم وعلى هذا فيكون معناه تعليمنا وتوفيقنا على الدعاء عليهم كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع بقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين (وثالثها) أن معناه جعلوا بخلاء وألزموا البخل فهم أبخل قوم فلا يلفى يهودي أبدا غير لئيم بخيل عن الزجاج ﴿ولعنوا بما قالوا﴾ أي أبعدوا عن رحمة الله وثوابه بسبب هذه المقالة وقيل عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار عن الحسن ثم رد الله عليهم بضد مقالتهم فقال ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ أي ليس الأمر على ما وصفوه بل هو جواد فليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى الجود وإنما قال ﴿يداه﴾ على التثنية مبالغة في معنى الجود والإنعام لأن ذلك أبلغ فيه من أن يقول بل يده مبسوطة ويمكن أن يكون المراد باليد النعمة ويكون الوجه في تثنية النعمة أنه أراد نعم الدنيا ونعم الآخرة لأن الكل وإن كانت نعم الله فمن حيث اختص كل منهما بصفة تخالف صفة الآخر كأنهما جنسان ويمكن أن يكون تثنية النعمة أنه أريد بهما النعم الظاهرة والباطنة كما قال تعالى وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وقيل إن المراد باليدين القوة والقدرة عن الحسن ومعناه قوتاه بالثواب والعقاب مبسوطتان بخلاف قول اليهود إن يده مقبوضة عن عذابنا ﴿ينفق كيف يشاء﴾ معناه يعطي كيف يشاء من يشاء من عباده ويمنع من يشاء من عباده لأنه متفضل بذلك فيفعل على حسب المصلحة ﴿وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا﴾ أي سيزدادون عند إنزال القرآن إليك طغيانا وكفرا ويريد بالكثير منهم المقيمين على الكفر وإنما ازدادوا كفرا لأنه كلما أنزل الله حكما وأخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) به جحدوه وازدادوا بذلك طغيانا وهو التمادي والمجاوزة عن الحد وكفرا انضم إلى كفرهم وهذا كما يقول القائل وعظتك فكانت موعظتي وبالا عليك وما زادتك إلا شرا على معنى أنك ازددت عندها شرا وذلك مشهور في الاستعمال ﴿وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ أي بين اليهود والنصارى عن الحسن ومجاهد وقيل يريد به اليهود خاصة وقد مر تفسيره ففي أول السورة عند قوله فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴿كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله﴾ أي لحرب محمد عن الحسن ومجاهد وفي هذا دلالة ومعجزة لأن الله أخبره فوافق خبره المخبر فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا وأمنعهم دارا حتى أن قريشا كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم فأباد الله خضراءهم واستأصل شافتهم واجتث أصلهم فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرد أهل خيبر وغلب على فدك ودان له أهل وادي القرى فمحا الله تعالى آثارهم صاغرين وقال قتادة معناه أن الله أذلهم ذلا لا يعزون بعده أبدا وإنما يطفىء نار حربهم بلطفه وبما يطلع نبيه عليه من أسرارهم وبما يمن به عليه من التأييد والنصر ﴿ويسعون في الأرض فسادا﴾ بمعصية الله وتكذيب رسله ومخالفة أمره ونهيه واجتهادهم في محو ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كتبهم ﴿والله لا يحب المفسدين﴾ العاملين بالفساد والمعاصي في أرضه.