الآيات 49-50

وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿49﴾ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿50﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وحده تبغون بالتاء والباقون بالياء وروي في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر وإبراهيم النخعي ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ برفع الميم وقراءة الأعمش أفحكم الجاهلية بفتح الحاء والكاف والميم.

الحجة:

من قرأ ﴿يبغون﴾ بالياء فلأن ما قبله غيبة ﴿وإن كثيرا من الناس لفاسقون﴾ ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير قل لهم يا محمد أ فحكم الجاهلية تبغون ومن قرأ أ فحكم الجاهلية فعلى نحو ما جاء في الشعر:

قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبا كله لم أصنع

أي لم أصنعه فيكون التقدير أفحكم الجاهلية يبغونه فحذف العائد من الخبر كما يحذف من الصفة والحال في قولهم الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت أي أكرمته وأهنته ومررت بهند يضرب زيد أي يضربها زيد وقوله ﴿أفحكم الجاهلية﴾ فيكون بمعنى الشياع أي فحكام الجاهلية يبغون وجاز أن يقع المضاف جنسا كما جاء عنهم من قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ثم يرجع المعنى إلى قوله ﴿أفحكم الجاهلية﴾ لأنه ليس المراد هنا نفس الحكم فهو إذا على حذف المضاف والمراد أ فحكم حكم الجاهلية يبغون.

الإعراب:

موضع ﴿أن احكم﴾ نصب بالعطف على الكتاب والتقدير أنزلنا إليك الكتاب وأن احكم بينهم بما أنزل الله ووصلت أن بالأمر وإن كان لا يجوز صلة الذي بالأمر لأن الذي اسم ناقص تجري صلته في البيان عنه مجرى الصفة في بيان النكرة ولذلك لا بد لها من عائد يعود إليها كما أن الصفة لا بد لها من عائد يعود منها إلى الموصوف وليس كذلك أن لأنها حرف وهي مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد فلما كان في فعل الأمر معنى المصدر جاز وصل الحرف به على معنى مصدره وحكم نصب لأنه مفعول يبغون وحكما نصب على التمييز.

المعنى:

﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم﴾ إنما كرر سبحانه الأمر بالحكم بينهم لأمرين (أحدهما) أنهما حكمان أمر بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه في الزمن المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان بينهم عن الجبائي وجماعة من المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) (والثاني) أن الأمر الأول مطلق والثاني يدل على أنه منزل ﴿و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾ قيل فيه قولان : (أحدهما) أن معناه احذرهم أن يضلوك عن ذلك إلى ما يهوون من الأحكام بأن يطمعوك منهم في الإجابة إلى الإسلام عن ابن عباس (والثاني) إن معناه احذرهم أن يضلوك بالكذب على التوراة لأنه ليس كذلك الحكم فيها فإني قد بينت لك حكمها عن ابن زيد وفي هذه الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع والضلال وذوي الأهواء وترك مخالطتهم ﴿فإن تولوا﴾ أي فإن أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله ﴿فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم﴾ قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه فاعلم يا محمد إنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إجرامهم، ذكر البعض والمراد به الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص عن الجبائي، (والثاني) أنه ذكر البعض تغليظا للعقاب والمراد أنه يكفي أن يؤاخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم والتدمير عليهم (والثالث) أنه أراد تعجيل بعض العقاب بما كان من التمرد في الأجرام لأن عذاب الدنيا يختص ببعض الذنوب دون بعض وعذاب الآخرة يعم وقيل المراد بذلك إجلاء بني النضير لأن علماءهم لما كفروا وكتموا الحق عوقبوا بالجلاء عن الحسن وقيل المراد بنو قريظة لما نقضوا العهد يوم الأحزاب عوقبوا بالقتل ﴿وإن كثيرا من الناس لفاسقون﴾ هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن امتناع القوم من الإقرار بنبوته والإسراع إلى إجابته بأن أهل الإيمان قليل وأهل الفسق كثير فلا ينبغي أن يعظم عليك ذلك ثم أنكر عليهم فعلهم فقال ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ والمراد به اليهود عن مجاهد واختاره الجبائي قال لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم وأشرافهم لم يؤاخذوهم به فقيل لهم أ فحكم الجاهلية أي عبدة الأوثان تطلبون وأنتم أهل الكتاب وقيل المراد به كل من طلب غير حكم الله فإنه يخرج منه إلى حكم الجاهلية وكفى بذلك أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم ﴿ومن أحسن من الله حكما﴾ أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله ﴿لقوم يوقنون﴾ أي عند قوم أقيمت اللام مقام عنه عن الجبائي وهذا جائز إذا تقاربت المعاني وارتفع اللبس فإذا قيل الحكم لهم فلأنهم يستحسنونه وإذا قيل عندهم فلان عندهم العلم بصحته.