الآية- 48

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿48﴾

اللغة:

أصل مهيمن مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وقد صرف فقيل هيمن الرجل إذا ارتقب وحفظ وشهد يهيمن هيمنة فهو مهيمن وعلى هذا فيكون وزنه مفيعل مثل مسيطر ومبيطر وقال الأزهري كان في الأصل أيمن يؤيمن كما أن الأصل في يفعل يؤفعل فعلى هذا يكون على وزن مؤفعل فقلبت الهمزة هاء وروي في الشواذ مهيمنا بفتح الميم عن مجاهد، والشرعة والشريعة واحدة وهي الطريقة الظاهرة والشريعة هي الطريقة التي توصل منه إلى الماء الذي فيه الحياة فقيل الشريعة في الدين للطريق الذي توصل منه إلى الحياة في النعيم وهي الأمور التي يعبد الله بها من جهة السمع قال الشاعر:

أتنسونني يوم الشريعة والقنا

بصفين من لباتكم تتكسر

يريد شريعة الفرات والأصل فيه الظهور ويقال أشرعت القنا إذا أظهرت وشرعت في الأمر شروعا إذا دخلت فيه دخولا ظاهرا والناس فيه شرع أي متساوون والمنهاج الطريق المستمر يقال طريق نهج ومنهج أي بين قال الراجز:

من يك ذا شك فهذا فلج

ماء رواء وطريق نهج

وقال المبرد الشرعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستقيم قال وهذه الألفاظ إذا تكررت فلزيادة فائدة فيه ومنه قول الحطيئة:

وهند أتى من دونها الناي والبعد

وقال والناي لما قل بعده وقد جاء بمعنى واحد قال عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وأقوى وأقفر بمعنى يقال نهجت لك الطريق وأنهجته فهو منهوج ونهج الطريق وأنهج إذا وضح والاستباق يكون بين اثنين فصاعدا يجتهد كل منهم أن يستبق غيره قال تعالى واستبقا الباب يعني يوسف وصاحبته تبادرا إلى الباب.

الإعراب:

مصدقا حال من الكتاب ومهيمنا كذلك وقيل أنه حال من الكاف الذي هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأول أقوى لأجل حرف العطف لأنه قال ﴿وأنزلنا إليك الكتاب﴾ ﴿مصدقا﴾ و﴿مهيمنا﴾ ولا يجوز أن يعطف حال على حال لغير الأول لا تقول ضربت هند زيدا قاعدا وقائمة ولو قلت قائمة بغير واو لجاز ويجوز أن يكون عطفا على مصدقا ويكون مصدقا حالا للنبي والأول أظهر.

المعنى:

لما بين تعالى نبوة موسى وعيسى عقب ذلك ببيان نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) احتجاجا على اليهود والنصارى بأن طريقته كطريقتهم في الوحي والمعجز فقال ﴿وأنزلنا إليك﴾ يا محمد ﴿الكتاب﴾ يعني القرآن ﴿بالحق﴾ أي بالعدل ﴿مصدقا لما بين يديه من الكتاب﴾ يعني التوراة والإنجيل وما فيهما من توحيد الله وعدله والدلالة على نبوته والحكم بالرجم والقود على ما تقدم ذكره وقيل المراد بالكتاب الكتب المنزلة على الأنبياء ومعنى الكتاب المكتوب كقولهم هذه الدراهم ضرب الأمير أي مضروبه عن أبي مسلم ﴿ومهيمنا عليه﴾ معناه وأمينا عليه شاهدا بأنه الحق عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وقيل مؤتمنا عن سعيد بن جبير وأبي عبيدة وابن جريج وهو قريب من الأول قال ابن جريج أمانة القرآن أن ما أخبر به الكتب أن كان موافقا للقرآن يجب التصديق به وإلا فلا وقيل معناه وحافظا ورقيبا عليه عن الحسن وأبي عبيدة قالوا وفيه دلالة على أن ما حكى الله أنه كتبه عليهم في التوراة يلزمنا العمل به لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك وشاهدا به ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله﴾ يعني بين اليهود بالقرآن في الرجم على الزانين عن ابن عباس قال إذا ترافع أهل الكتاب إلى الحكام يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الإسلام لأنه أمر من الله بالحكم بينهم والأمر يقتضي الإيجاب وبه قال الحسن ومسروق وقال الجبائي وهذا ناسخ للتخيير في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم والترك ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ يريد فيما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم عن ابن عباس ﴿عما جاءك من الحق﴾ ويجوز أن يكون عن من صلة معنى لا تتبع أهواءهم لأن معناه لا تزغ فكأنه قال لا تزغ عما جاءك باتباع أهوائهم ومتى قيل كيف يجوز أن يتبع النبي أهواءهم مع كونه معصوما فالجواب أن النبي يجوز أن يرد عما يعلم أنه لا يفعله ويجوز أن يكون الخطاب له والمراد جميع الحكام ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد ولا يعني به قوم كل نبي أ لا ترى أن ذكر هؤلاء قد تقدم في قوله ﴿إنا أنزلنا التوراة﴾ الآية ثم قال وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم قال ﴿أنزلنا إليك الكتاب﴾ ثم قال ﴿لكل جعلنا منكم شرعة﴾ فغلب المخاطب على الغائب شرعة أي شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة عن قتادة وجماعة من المفسرين وفي هذا دلالة على جواز النسخ على أن نبينا كان متعبدا بشريعته فقط وكذلك أمته وقيل الخطاب لأمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن مجاهد والأول أقوى لأنه سبحانه بين أن لكل نبي شريعة ومنهاجا أي سبيلا واضحا غير شريعة صاحبه وطريقته ويقوي ذلك قوله ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ ومعناه ولو شاء الله لجمعكم على ملة واحدة في دعوة جميع الأنبياء لا تبدل شريعة منها ولا تنسخ عن ابن عباس وقيل أراد به مشيئة القدرة أي لو شاء الله لجمعكم على الحق كما قال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها عن الحسن وقتادة ﴿ولكن ليبلوكم﴾ أي ولكن جعلكم على شرائع مختلفة ليمتحنكم ﴿فيما آتاكم﴾ أي فيما فرضه عليكم وشرعه لكم وقيل فيما أعطاكم من السنن والكتاب وقال الحسين بن علي المغربي المعنى لو شاء الله لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة ولكن ليختبركم فيما كلفكم من العبادات وهو عالم بما يؤول إليه أمركم ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي بادروا فوت الحظ بالتقدم في الخير وقيل معناه بادروا الفوت بالموت أو العجز وبادروا إلى ما أمرتكم به فإني لا آمركم إلا بالصلاح عن الجبائي وقيل معناه سابقوا الأمم الماضية إلى الطاعات والأعمال الصالحة عن الكلبي وفي هذا دلالة على وجوب المبادرة إلى أفعال الخيرات ويكون محمولا على الواجبات ومن قال إن الأمر على الندب حمله على جميع الطاعات ﴿إلى الله مرجعكم﴾ أي مصيركم ﴿جميعا فينبؤكم﴾ فيخبركم ﴿بما كنتم فيه تختلفون﴾ من أمر دينكم ثم يجازيكم على حسب استحقاقكم.