الآية- 45

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾

القراءة:

قرأ الكسائي العين وما بعده كله بالرفع وقرأ أبو جعفر وابن كثير وابن عامر وأبو عمر كلها بالنصب إلا قوله والجروح قصاص فإنهم قرءوا بالرفع والباقون ينصبون جميع ذلك وكلهم ثقل الأذن إلا نافعا فإنه خففها في كل القرآن.

الحجة:

قال أبو علي حجة من نصب ﴿العين﴾ وما بعده أنه عطف ذلك كله على أن يجعل الواو للاشتراك في نصب أن ولم يقطع الكلام عما قبله كما فعل ذلك من رفع وأما من رفع بعد النصب فقال أن النفس بالنفس والعين بالعين فإنه يحتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن تكون الواو عاطفة جملة على جملة كما يعطف المفرد على المفرد (والثاني) أنه حمل الكلام على المعنى لأنه إذا قال ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس﴾ فمعناه قلنا لهم النفس بالنفس فحمل العين بالعين على هذا كما أنه لما كان المعنى في قوله ﴿يطاف عليهم بكأس من معين﴾ يمنحون كأسا من معين حمل حورا عينا على ذلك كأنه يمنحون كأسا ويمنحون حورا عينا ومن ذلك قوله:

بادت وغير آيهن مع البلى

إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج أما سواء قذاله

فبدا وغيب سارة المعزاء

لما كان المعنى في:

بادت وغير آيهن إلا رواكد

بها رواكد حمل مشججا عليه فكأنه قال هناك رواكد ومشجج ومثل هذا في الحمل على المعنى كثير وأقول إن من هذا القبيل بيت الفرزدق الذي آخره إلا مسحتا أو مجلف وقد ذكرناه قبل لأنه لما كان المعنى لم يبق من المال إلا مسحت حمل مجلفا عليه والوجه الثالث أن يكون عطف قوله ﴿والعين بالعين﴾ على الذكر المرفوع في الظرف الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في نحو قوله أنه يراكم هو وقبيله ألا ترى أنه قد جاء لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا فلم يؤكد بالمنفصل كما أكد في الآية الأخرى قال فإن قلت فإن لا في قوله ولا آباؤنا عوض من التأكيد لأن الكلام قد طال كما في حضر القاضي اليوم امرأة قيل هذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فأما إذا وقع بعد حرف العطف فإنه لم يسد ذلك المسد وأما قوله ﴿والجروح قصاص﴾ فمن رفعه فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها ويجوز أن يستأنف الجروح قصاص استئناف إيجاب وابتداء شريعة لا على أنه مكتوب عليهم في التوراة ويقوي أنه من المكتوب عليهم في التوراة نصب من نصب فقال ﴿والجروح قصاص﴾ وأما التخفيف في الأذن فلعله مثل السحت والسحت وقد تقدم القول في ذلك.

المعنى:

ثم بين سبحانه حكم التوراة في القصاص فقال ﴿وكتبنا﴾ أي فرضنا ﴿عليهم﴾ أي على اليهود الذين تقدم ذكرهم ﴿فيها﴾ أي في التوراة ﴿أن النفس بالنفس﴾ معناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى عمدا فإنه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا وكان المقتول مكافئا للقاتل أما بأن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين فأما إذا كان القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا ففي وجوب القصاص هناك خلاف بين الفقهاء وعندنا لا يجب القصاص وبه قال الشافعي وقال الضحاك لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح إنما كان العفو أو القصاص ﴿والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن﴾ قال العلماء كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة من الشلل وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف ﴿والجروح قصاص﴾ هذا عام في كل ما يمكن أن يقتص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين واليدين والرجلين وغيرهما ويقتص الجراحات بمثلها الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة إلا المأمومة والجائفة فإنه لا قصاص فيهما وهي التي تبلغ أم الرأس والتي تبلغ الجوف في البدن لأن في القصاص فيهما تغرير بالنفس وأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم أو فكة عظم أو جراحة يخاف منها التلف ففيه أروش مقدرة والقصاص هنا مصدر يراد به المفعول أي والجروح متقاصة بعضها ببعض وأحكام الجراحات وتفاصيل الأروش في الجنايات كثيرة وفروعها جمة موضعها كتب الفقه ﴿فمن تصدق به﴾ أي بالقصاص الذي وجب له تصدق به على صاحبه بالعفو وأسقطه عنه ﴿فهو﴾ أي التصدق ﴿كفارة له﴾ أي للمتصدق الذي هو المجروح أو ولي الدم هذا قول أكثر المفسرين وقيل إن معناه فمن عفا فهو مغفرة له عند الله وثواب عظيم عن ابن عمر وابن عباس في رواية عطاء والحسن والشعبي وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره وروى عبادة بن الصامت أن النبي قال من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه وقيل إن الضمير في له يعود إلى المتصدق عليه أي كفارة للمتصدق عليه لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه عن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وزيد بن أسلم وعلى هذا فإن الجاني إذا عفا عنه المجني عليه كان العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة والقول الأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور وهو من وفي القول الثاني يعود إلى مدلول عليه وهو المتصدق عليه يدل عليه قوله ﴿فمن تصدق به﴾ ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ قيل هم اليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله وقيل هو عام في كل من حكم بخلاف ما أنزل الله فيكون ظالما لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب وهذا الوجه يوجب أن يكون ما تقدم ذكره من الأحكام يجب العمل به في شريعتنا وإن كان مكتوبا في التوراة.