الآية- 41

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿41﴾

اللغة:

﴿سماعون للكذب﴾ أي قابلون له يقال لا تستمع من فلان قوله أي لا تقبل ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل الله منه حمده وفيه وجه آخر وهو أن معناه أنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك والسماع الجاسوس والفتنة الاختبار وأصله التخليص من قولهم فتنت الذهب في النار أي خلصته من الغش.

الإعراب:

ارتفع سماعون لأنه خبر مبتدإ محذوف أي هم سماعون ويجوز أن يرتفع على معنى ﴿ومن الذين هادوا سماعون﴾ فيكون مبتدءا على قول سيبويه ومعمولا لمنهم على قول الأخفش تقديره ومنهم فريق سماعون للكذب وقوله ﴿لم يأتوك﴾ في موضع جر لأنه صفة لقوم وقوله ﴿يحرفون الكلم﴾ صفة لقوله ﴿سماعون﴾ فيكون موضعه رفعا ويجوز أن يكون موضعه نصبا على أنه حال من الضمير في اسم الفاعل أي محرفين الكلم بمعنى مقدرين تحريفه أي يسمعون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويقدرون في أنفسهم تحريف ما يسمعون كقولهم معه صقر صائدا به غدا وقوله ﴿من بعد مواضعه﴾ من باب حذف المضاف والتقدير من بعد وضعه كلامه مواضعه ولو قال في معناه عن مواضعه لجاز لأن معناهما متقارب كما يقال أتيتك بعد فراغي من الشغل وعن فراغي منه ولا يجوز أن يقول رميت بعد القوس بدلا من قولك رميت عن القوس لأن المعنى يختلف وذلك أن عن لما عدا الشيء الذي هو كالسبب له وبعد إنما هو لما تأخر عن كون الشيء فما صح فيه معنى السبب ومعنى التأخر جاز فيه الأمران وما لم يصح فيه إلا أحد الأمرين لم يجز إلا أحد الحرفين.

النزول:

قال الباقر (عليه السلام) وجماعة من المفسرين أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما فقال وهل ترضون بقضائي في ذلك قالوا نعم فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال النبي هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم قالوا أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى قال فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا فقال له النبي إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم والذي ذكرتني به لو لا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له النبي فما ذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله قال كنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا يعنون ابن عمه فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال أنه أنشدني بالتوراة ولو لا ذلك لما أخبرته به فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده وقال أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل الله فيه ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير﴾ فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبي عن ذلك ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال تنام عيناي ولا ينام قلبي فقال صدقت وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شيء فقال أيهما علا وسبق ماء صاحبه كان الشبه له قال قد صدقت فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه قال فأغمي على رسول الله طويلا ثم خلي عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة والعظم والعصب والعروق للرجل قال له صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال يا محمد من يأتيك من الملائكة قال جبرائيل قال صفه لي فوصفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال أشهد أنه في التوراة كما قلت وإنك رسول الله حقا فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يقد وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم رجلين منا وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات.

المعنى:

لما تقدم ذكر اليهود والنصارى عقبه سبحانه بتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمانه من كيدهم فقال ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون﴾ أي لا يغمك وقرىء لا يحزنك ومعناهما واحد ﴿الذين يسارعون﴾ أي مسارعة الذين يسارعون ﴿في الكفر﴾ أي يبادرون فيه بالإصرار عليه والتمسك به ﴿من﴾ المنافقين ﴿الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا﴾ أي ومن اليهود ﴿سماعون للكذب﴾ قيل هو كناية عن اليهود والمنافقين وقيل عن اليهود خاصة والمعنى سماعون قولك ليكذبوا عليك ﴿سماعون﴾ كلامك ﴿لقوم آخرين لم يأتوك﴾ ليكذبوا عليك إذا رجعوا أي هم عيون عليك لأنهم كانوا رسل خيبر وأهل خيبر لم يحضروا عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي وقيل معنى سماعون أي قائلون للكذب سماعون لقوم آخرين أرسلوهم في قصة زان محصن فقالوا لهم إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه لأنهم كانوا حرفوا حكم الرجم الذي في التوراة عن ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب والسدي وقيل إنما كان ذلك في قتيل منهم قالوا إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فاحذروه عن قتادة وقال أبو جعفر كان ذلك في أمر بني النضير وبني قريظة ﴿يحرفون الكلم﴾ أي كلام الله ﴿من بعد مواضعه﴾ أي من بعد أن وضعه الله مواضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه يعني بذلك ما غيروه من حكم الله في الزنا ونقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة عن جماعة من المفسرين وقيل نقلوا حكم القتل من القود إلى الدية حتى كثر القتل فيهم عن قتادة وقيل أراد به تحريفهم التوراة بتحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال فيها وقيل معناه يحرفون كلام النبي بعد سماعه ويكذبون عليه عن الحسن وأبي علي الجبائي وكانوا يكتبون بذلك إلى خيبر وكان أهل خيبر حربا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهذه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول أن اليهود كيف يؤمنون بك مع أنهم يحرفون كلام الله في التوراة ويحرفون كلامك ﴿يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا﴾ أي يقول يهود خيبر ليهود المدينة إن أعطيتم هذا أي أن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه وإن لم تعطوه يعني الجلد أي إن أفتاكم محمد بالرجم فاحذروه عن الحسن معناه أن أوتيتم الدية فاقبلوه وإن أوتيتم القود فلا تقبلوه ﴿ومن يرد الله فتنته﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أن الفتنة العذاب أي من يرد الله عذابه كقوله تعالى ﴿على النار يفتنون﴾ أي يعذبون وقوله ﴿ذوقوا فتنتكم﴾ أي عذابكم عن الحسن وقتادة واختاره الجبائي وأبو مسلم (وثانيها) أن معناه من يرد الله هلاكه عن السدي والضحاك (وثالثها) أن المراد من يرد الله خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه عن الزجاج (ورابعها) أن المراد من يرد الله اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدع ذلك ويحرفه والأصح الأول ﴿فلن تملك له من الله شيئا﴾ أي فلن تستطيع أن تدفع لأجله من أمر الله الذي هو العذاب أو الفضيحة أو الهلاك شيئا ﴿أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم﴾ معناه أولئك اليهود لم يرد الله أن يطهر من عقوبات الكفر التي هي الختم والطبع والضيق قلوبهم كما طهر قلوب المؤمنين منها بأن كتب في قلوبهم الإيمان وشرح صدورهم للإسلام عن الجبائي والحسن وقيل معناه لم يرد الله أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها أنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان عن البلخي قال القاضي وهذا لا يدل على أنه سبحانه لم يرد منهم الإيمان لأن ذلك لا يعقل من تطهير القلب إلا على جهة التوسع ولأن قوله ﴿لم يرد الله أن يطهر قلوبهم﴾ يقتضي نفي كونه مريدا وليس فيه بيان الوجه الذي لم يرد ذلك عليه والمراد بذلك أنه لم يرد تطهير قلوبهم مما يلحقها من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب ولذلك قال عقيبه ﴿لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ ولو كان أراد ما قاله المجبرة لم تجعل ذلك ذما لهم ولا عقبه بالذم ولا جعله في حكم الجزاء على ما لأجله عاقبهم وأراد ذلك منهم والخزي الذي لهم في الدنيا هو ما لحقهم من الذل والصغار والفضيحة بإلزام الجزية وإظهار كذبهم في كتمان الرجم وإجلاء بني النضير من ديارهم وخزي المنافقين باطلاع النبي على كفرهم.