الآيـة 189

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿189﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وابن ذكوان والكسائي البيوت والشيوخ وأخواتهما بكسر أوائلها إلا الغيوب وقرأ حمزة وحماد ويحيى عن عاصم كلها بالكسر إلا الجيوب وقالون يكسر منها البيوت فقط والباقون بالضم.

الحجة:

من كسر أوائل هذه الكلمات إنما فعل ذلك لأجل الياء أبدل من الضمة الكسرة لأن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة لها كما كسر الفاء من عيينة ونييب في تصغير عين وناب وإن لم يكن في أبنية التصغير على هذا الوزن لتقريب الحركة مما بعدها.

ومن ضمها فعلى الأصل لأنها فعول.

اللغة:

الأهلة جمع هلال واشتقاقه من قولهم استهل الصبي إذا بكى حين يولد أو صاح وقولهم أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية وإنما قيل هلال لأنه حين يرى يهل الناس بذكره يقال أهل الهلال واستهل ولا يقال أهل ويقال أهللنا الهلال وأهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه وقد اختلف في تسميته هلالا كم يسمى ومتى يسمى قمرا فقال بعضهم يسمى هلالا ليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالا إلى أن يعود في الشهر الثاني وقال آخرون يسمى هلالا ثلاث ليال ثم يسمى قمرا وقال بعضهم يسمى هلالا حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة وهذا قول الأصمعي وقال بعضهم يسمى هلالا حتى يبهر ضوءه سواد الليل ثم يقال قمر وهذا يكون في الليلة السابعة واسم القمر عند العرب الزبرقان واسم دارته الهالة واسم ضوئه الفخت والميقات مقدار من الزمان جعل علما لما يقدر من العمل والتوقيت تقدير الوقت وكلما قدرت غايته فهو موقت والميقات منتهى الوقت والآخرة ميقات الخلق والإهلال ميقات الشهر والحج ذكرنا معناه فيما مضى والبر النفع الحسن والظهر الصفحة القابلة لصفحة الوجه والباب المدخل يقول منه بوبه تبويبا إذا جعله أبوابا والبواب الحاجب لأنه يلزم الباب والبابة القطعة من الشيء كالباب من الجملة.

الإعراب:

قوله ﴿للناس﴾ في موضع رفع صفة لمواقيت تقديره هي مواقيت كائنة للناس والباء في قوله ﴿بأن تأتوا﴾ مزيدة لتأكيد النفي وأن تأتوا في موضع الجر بالباء والجار والمجرور في موضع النصب بأنهما خبر ليس وقوله ﴿ولكن البر من اتقى﴾ قيل فيه وجهان (أحدهما) أن تقديره ﴿ولكن البر من اتقى﴾ كما قلناه في قوله ﴿ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر﴾ (والآخر) إن تقديره ولكن البار من اتقى وضع المصدر موضع الصفة.

النزول:

روي إن معاذ بن جبل قال يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنهم سألوا رسول الله لم خلقت هذه الأهلة فأنزل الله هذه الآية.

المعنى:

ثم بين شريعة أخرى فقال ﴿يسألونك عن الأهلة﴾ أي أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها ووجه الحكمة في ذلك ﴿قل﴾ يا محمد ﴿هي مواقيت للناس والحج﴾ أي هي مواقيت يحتاج الناس إلى مقاديرها في صومهم وفطرهم وعدد نسائهم ومحل ديونهم وحجهم فبين سبحانه أن وجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ما تعلق بذلك من مصالح الدين والدنيا لأن الهلال لو كان مدورا أبدا مثل الشمس لم يمكن التوقيت به وفيه أوضح دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد وأنه يثبت بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت والدلالة على الشهور فلو كانت الشهور إنما تعرف بطريق العدد لخص التوقيت بالعدد دون رؤية الأهلة لأن عند أصحاب العدد لا عبرة برؤية الأهلة في معرفة المواقيت وقوله ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ فيه وجوه (أحدها) أنه كان المحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكنهم كانوا ينقبون في ظهر بيوتهم أي في مؤخرها نقبا يدخلون ويخرجون منه فنهوا عن التدين بذلك عن ابن عباس وقتادة وعطا ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل إلا أن الحمس وهو قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة كانوا لا يفعلون ذلك وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة وقيل بل كانت الحمس تفعل ذلك وإنما فعلوا ذلك حتى لا يحول بينهم وبين السماء شيء (وثانيها) إن معناه ليس البر أن تأتوا البيوت من غير جهاتها وينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها أي الأمور كان وهو المروي عن جابر عن أبي جعفر (وثالثها) إن معناه ليس البر طلب المعروف من غير أهله وإنما البر طلب المعروف من أهله ﴿ولكن البر من اتقى﴾ قد مر معناه ﴿وأتوا البيوت من أبوابها﴾ قد مضى معناه وقال أبو جعفر آل محمد أبواب الله وسبله والدعاة إلى الجنة والقادة إليها والأدلاء عليها إلى يوم القيامة وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى المدينة إلا من بابها ويروى أنا مدينة الحكمة ﴿واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ معناه واتقوا ما نهاكم الله عنه وزهدكم فيه لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.

النظم:

ووجه اتصال قوله ﴿ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ بقوله ﴿يسألونك عن الأهلة﴾ أنه لما بين أن الأهلة مواقيت للناس والحج وكانوا إذا أحرموا يدخلون البيوت من ورائها عطف عليها قوله ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ وقيل أنه لما بين أن أمورنا مقدرة بأوقات قرن به قوله ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ أي فكما أن أموركم مقدرة بأوقات فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه لأن اتباع ما أمر به خير من اتباع ما لم يأمر به.