الآية- 6

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿6﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب والكسائي وحفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ﴿وأرجلكم﴾ بالنصب والباقون وأرجلكم بالجر وقد ذكرنا اختلافهم في لامستم في سورة النساء وسنذكر ما قيل في أرجلكم على القراءتين في المعنى لأن الكلام فيه يتعلق بما اختلفت فيه الأمة من القول بوجوب غسل الرجلين أو مسحهما أو التخيير بين الغسل والمسح أو وجوب الأمرين كليهما على ما سنبينه إن شاء تعالى.

اللغة:

الجنب يقع على الوحدة والجمع والمذكر والمؤنث كما يقال رجل عدل وقوم عدل زور وقوم زور يقال رجل جنب وقوم جنب ورجلان جنب وامرأة جنب وإنما هو على تأويل ذو جنب لأنه مصدر والمصدر يقوم مقام ما أضيف إليه ومن العرب من يثني ويجمع ويجعل المصدر بمنزلة اسم الفاعل وأجنب الرجل وجنب واجتنب وأصل الجنابة البعد قال علقمة:

فلا تحرمني نائلا عن جنابة

فإني امرؤ وسط القباب غريب

فاطهروا معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغم في الطاء فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الواصل فقيل اطهروا.

المعنى:

لما تقدم الأمر بالوفاء بالعقود ومن جملتها إقامة الصلاة ومن شرائطها الطهارة بين سبحانه ذلك بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير طهر وحذف الإرادة لأن في الكلام دلالة على ذلك ومثله قوله ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله﴾ ﴿وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة﴾ والمعنى إذا أردت قراءة القرآن وإذا كنت فيهم فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة فعليكم الوضوء عن عكرمة وإليه ذهب داود قال وكان علي (عليه السلام) يتوضأ لكل صلاة ويقرأ هذه الآية وكان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة والقول الأول هو الصحيح وإليه ذهب الفقهاء كلهم وما رووه من تجديد الوضوء فمحمول على الندب والاستحباب وقيل إن الفرض كان في بدء الإسلام التوضؤ عند كل صلاة ثم نسخ بالتخفيف وبه قال ابن عمر قال حدثتني أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن فرضه على ما كان عليه فكان يتوضأ وروى سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلاة كلها بوضوء واحد فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه قال أ عمدا فعلته يا عمر ؟ وقيل إن هذا إعلام بأن الوضوء لا يجب إلا للصلاة لأنه روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى أنه لا يرد جواب السلام حتى يتطهر للصلاة ثم يجيب حتى نزلت هذه الآية ﴿فاغسلوا وجوهكم﴾ هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه والغسل هو إمرار الماء على المحل حتى يسيل والمسح أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل واختلف في حد الوجه فالمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا وما دخل بين الإبهام والوسطى عرضا وقيل حده ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا وما بين الأذنين عرضا دون ما غطاه الشعر من الذقن وغيره أو كان داخل الفم والأنف والعين فإن الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر ويواجهه دون غيره كما قلناه وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهري والشعبي وغيرهم وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وقيل الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر من منابت شعر اللحية والعارض وما بطن وما كان منه داخل الفم والأنف وما أقبل من الأذنين على الوجه عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وسعيد بن جبير وجماعة وإليه ذهب الشافعي ﴿وأيديكم إلى المرافق﴾ أي واغسلوا ذلك أيضا والمرافق جمع مرفق وهو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد قال الواحدي كثير من النحويين يجعلون إلى هنا بمعنى مع ويوجبون غسل المرفق وهو مذهب أكثر الفقهاء وقال الزجاج لو كان معناه مع المرافق لم يكن في المرافق فائدة وكانت اليد كلها يجب أن تغسل لكنه لما قيل ﴿إلى المرافق﴾ اقتطعت في الغسل من حد المرفق فالمرافق حد ما ينتهي إليه في الغسل منها والظاهر على ما ذكره لكن الأمة أجمعت على أن من بدأ من المرفقين في غسل اليدين صح وضوؤه واختلفوا في صحة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرفق وأجمعت الأمة أيضا على أن من غسل المرفقين صح وضوؤه واختلفوا في من لم يغسلهما هل يصح وضوؤه وقال الشافعي لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها ومما جاء في القرآن إلى بمعنى مع قوله تعالى من أنصاري إلى الله أي مع الله وقوله ﴿ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم﴾ أي مع أموالكم ونحوه قول امرىء القيس:

له كفل كالدعص بلله الندى

إلى حارك مثل الرتاج المضبب

وفي أمثال ذلك كثرة ﴿وامسحوا برءوسكم﴾ وهذا أمر بمسح الرأس والمسح أن تمسح شيئا بيديك كمسح العرق عن جبينك والظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس لأن من مسح البعض يسمى ماسحا وإلى هذا ذهب أصحابنا قالوا يجب أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح وبه قال ابن عمر وإبراهيم والشعبي وهو مذهب الشافعي وقيل يجب مسح جميع الرأس وهو مذهب مالك وقيل يجب مسح ربع الرأس فإن رسول الله كان يمسح على ناصيته وهي قريب من ربع الرأس عن أبي حنيفة ورويت عنه روايات في ذلك لا نطول بذكرها ﴿وأرجلكم إلى الكعبين﴾ اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء إن فرضهما الغسل وقالت الإمامية فرضهما المسح دون غيره وبه قال عكرمة وقد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس وأنس وأبي العالية والشعبي وقال الحسن البصري بالتخيير بين المسح والغسل وإليه ذهب الطبري والجبائي إلا أنهما قالا يجب مسح جميع القدمين ولا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم قال ناصر الحق من جملة أئمة الزيدية يجب الجمع بين المسح والغسل وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فمسح على رجليه وروي عنه أنه قال إن في كتاب الله المسح ويأبى الناس إلا الغسل وقال الوضوء غسلتان ومسحتان وقال قتادة فرض الله غسلتين ومسحتين وروى ابن علية عن حميد عن موسى بن أنس أنه قال لأنس ونحن عنده إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعواقيبهما فقال أنس صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ قال فكان أنس إذا مسح قدميه بلهما وقال الشعبي نزل جبرائيل (عليه السلام) بالمسح ثم قال إن في التيمم يمسح ما كان غسلا ويلقى ما كان مسحا وقال يونس حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما وأما ما روي عن سادة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك فأكثر من أن يحصى فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المسح على الرجلين فقال هو الذي نزل به جبرائيل وعنه عن أحمد بن محمد قال سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن المسح على القدمين كيف هو فوضع بكفه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين قال لا إلا بكفه كلها وأما وجه القراءتين في ﴿أرجلكم﴾ فمن قال بالغسل حمل الجر فيه على أنه عطف ﴿برءوسكم﴾ وقال المراد بالمسح هو الغسل وروي عن أبي زيد أنه قال المسح خفيف الغسل فقد قالوا تمسحت للصلاة وقوي ذلك بأن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول ولم يجيء في الممسوح فلما وقع التحديد في المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد وهذا قول أبي علي الفارسي وقال بعضهم هو خفض على الجوار كما قالوا جحر ضب خرب وخرب من صفات الجحر لا الضب وكما قال امرؤ القيس:

كان ثبيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

وقال الزجاج إذا قرأ بالجر يكون عطفا على الرؤوس فيقتضي كونه ممسوحا وذكره عن بعض السلف أنه قال نزل جبرائيل بالمسح والسنة الغسل قال والخفض على الجوار لا يجوز في كتاب الله تعالى ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل وقال الأخفش هو معطوف على الرؤوس في اللفظ مقطوع عنه في المعنى كقول الشاعر:

علفتها تبنا وماء باردا

المعنى وسقيتها ماء باردا وأما القراءة بالنصب فقالوا فيه أنه معطوف على أيديكم لأنا رأينا فقهاء الأمصار عملوا على الغسل دون المسح ولما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى قوما توضأوا وأعقابهم تلوح فقال ويل للعراقيب من النار ذكره أبو علي الفارسي وأما من قال بوجوب مسح الرجلين حمل الجر والنصب في وأرجلكم على ظاهره من غير تعسف فالجر للعطف على الرؤوس والنصب للعطف على موضع الجار والمجرور وأمثال ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى قالوا ليس فلان بقائم ولا ذاهبا وأنشد :

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديد وقال تابط شرا:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد رب أخا عون بن مخراق فعطف عبد على موضع دينار فإنه منصوب على المعنى وأبعد من ذلك قول الشاعر:

جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل إخوة منظور بن سيار فإنه لما كان معنى جئتني هات أو أحضر لي مثلهم عطف بالنصب على المعنى وأجابوا الأولين عما ذكروه في وجه الجر والنصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز قالوا ما ذكروه أولا من أن المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه (أحدها) أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة في المعنى.

وقد فرق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة وبين الأعضاء الممسوحة فكيف يكون معنى المسح والغسل واحدا (وثانيها) أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك لأن حقيقة العطف تقتضي ذلك (وثالثها) أن المسح لو كان بمعنى الغسل لسقط استدلالهم بما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه توضأ وغسل رجليه لأن على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما فسموا المسح غسلا وفي هذا ما فيه فأما استشهاد أبي زيد بقولهم تمسحت للصلاة فالمعنى فيه أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة لأن ذلك تشبيه بالغسل قالوا بدلا من ذلك تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا فتجوزوا لذلك تعويلا على أن المراد مفهوم وهذا لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل وأما ما قالوه في تحديد طهارة الرجلين فقد ذكر المرتضى (ره) في الجواب عنه أن ذلك لا يدل على الغسل وذلك لأن المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل ولو صرح سبحانه فقال (وامسحوا أرجلكم وانتهوا بالمسح إلى الكعبين) لم يكن منكرا فإن قالوا إن تحديد اليدين لما اقتضى الغسل فكذلك تحديد الرجلين يقتضي الغسل قلنا أنا لم نوجب الغسل في اليدين للتحديد بل للتصريح بغسلهما وليس كذلك في الرجلين وإن قالوا عطف المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام قلنا هذا لا يصح لأن الأيدي محدودة وهي معطوفة على الوجوه التي ليست في الآية محدودة فإذا جاز عطف الأرجل وهي محدودة على الرؤوس التي ليست محدودة وهذا أشبه مما ذكرتموه لأن الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عضو محدود مغسول عليه ثم استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود فيجب أن يكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة معطوفة على الرؤوس دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود وعطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود وأما من قال أنه عطف على الجواز فقد ذكرنا عن الزجاج أنه لم يجوز ذلك في القرآن ومن أجاز ذلك في الكلام فإنما يجوز مع فقد حرف العطف وكل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا وذاك وأيضا فإن المجاورة إنما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس والأمن من الاشتباه فإن أحدا لا يشتبه عليه أن خربا لا يكون من صفة الضب ولفظة مزمل يكون من صفة البجاد وليس كذلك الأرجل فإنها تجوز أن تكون ممسوحة كالرءوس وأيضا فإن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا في كلام العرب وقالوا في جحر ضب خرب أنهم أرادوا خرب جحره فحذف المضاف الذي هو جحر وأقيم المضاف إليه وهو الضمير المجرور مقامه وإذا ارتفع الضمير استكن في خرب وكذلك القول في كبير أناس في بجاد مزمل فتقديره مزمل كبيرة فبطل الإعراب بالمجاورة جملة وهذا واضح لمن تدبره وأما من جعله مثل قول الشاعر:

علفتها تبنا وماء باردا

كأنه قدر في الآية واغسلوا أرجلكم فقوله أبعد من الجميع لأن مثل ذلك لو جاز في كتاب الله تعالى على ضعفه وبعده في سائر الكلام فإنما يجوز إذا استحال حمله على ظاهره وأما إذا كان الكلام مستقيما ومعناه ظاهرا فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذ البعيد وأما ما قاله أبو علي في القراءة بالنصب على أنه معطوف على الأيدي فقد أجاب عنه المرتضى (ره) بأن قال جعل التأثير في الكلام للقريب أولى من جعله للبعيد فنصب الأرجل عطفا على الموضع أولى من عطفها على الأيدي والوجوه على أن الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن تعطف على ما فيها فإن ذلك يجري مجرى قولهم ضربت زيدا وعمرا وأكرمت خالدا وبكرا فإن رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه ولا يجوز رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه ولو جاز ذلك أيضا لترجح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين ولا يتنافيان فأما ما روي في الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ويل للعراقيب من النار وغير ذلك من الأخبار التي رووها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه توضأ وغسل رجليه فالكلام في ذلك أنه لا يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار الذي لا يوجب علما وإنما يقتضي الظن على أن هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم ووجدت في كتبهم ونقلت عن شيوخهم مثل ما روي عن أوس بن أوس أنه قال رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) توضأ ومسح على نعليه ثم قام فصلى وعن حذيفة قال أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سباطة قوم فبال عليها ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على قدميه وذكره أبو عبيدة في غريب الحديث إلى غير ذلك مما يطول ذكره وقوله (ويل للعراقيب من النار) فقد روي فيه أن قوما من أجلاف الأعراب كانوا يبولون وهم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة وكان ذلك سببا لهذا الوعيد وأما الكعبان فقد اختلف في معناهما فعند الإمامية هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند معقد الشراك ووافقهم في ذلك محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وإن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع وقال جمهور المفسرين والفقهاء الكعبان هما عظما الساقين قالوا ولو كان كما قالوه لقال سبحانه وأرجلكم إلى الكعاب ولم يقل ﴿إلى الكعبين﴾ لأن على ذلك القول يكون في كل رجل كعبان ﴿وإن كنتم جنبا فاطهروا﴾ معناه إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصلاة فتطهروا بالاغتسال وهو أن تغسلوا جميع البدن والجنابة إنما تكون بإنزال الماء الدافق على كل حال أو بالتقاء الختانين وحده غيبوبة الحشفة في الفرج سواء كان معه إنزال أو لم يكن ﴿وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾قد مر تفسيره في سورة النساء فلا معنى لإعادته ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج﴾ معناه ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة والتيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق ولا ليعنتكم فيه عن مجاهد وجميع المفسرين ﴿ولكن يريد ليطهركم﴾ بما فرض عليكم من الوضوء والغسل من الأحداث والجنابة أي ينظف أجسادكم بذلك من الذنوب واللام دخلت فيه لتبيين الإرادة أي يريد ذلك لتطهيركم كما قال الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل ويؤيد ما قلناه ما روي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أن الوضوء يكفر ما قبله ﴿وليتم نعمته عليكم﴾ أي ويريد الله تعالى مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء أو التيمم عند عدمه أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا رخصة لكم منه من سوابغ نعمه التي أنعم بها عليكم ﴿لعلكم تشكرون﴾ أي لتشكروا الله على نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه وقد تضمنت هذه الآية أحكام الوضوء وصفته، وأحكام الغسل والتيمم ومسائلها المتفرعة منها كثيرة موضعها الكتب المؤلفة في الفقه.