الآيـة 187

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿187﴾

اللغة:

الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف وقيل أن أصله القول الفاحش فكفي به عن الجماع قال العجاج:

عن اللغا ورفث التكلم قال الأخفش إنما عديت بالي في الآية لأنه بمعنى الإفضاء واللباس الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان ويشبه به الأغشية فيقال لبس السيف بالحلية والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا قال الشاعر:

إذا ما الضجيع ثنى عطفه

تثنت فكانت عليه لباسا وقال:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخي ثقة إزاري قال أهل اللغة معناه امرأتي والاختيان الخيانة يقال خانه يخونه خونا وخيانة واختانه اختيانا ﴿وخائنة الأعين﴾ مسارقة النظر إلى ما لا يحل وأصل الباب منع الحق، والمباشرة إلصاق البشرة بالبشرة وهي ظاهر الجلد والابتغاء طلب البغية ﴿والخيط الأبيض﴾ بياض الفجر ﴿والخيط الأسود﴾ سواد الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء قال أبو داود:

فلما أضاءت لنا غدوة

ولاح من الصبح خيط أنارا

والخيط في اللغة معروف يقال خاطه يخيطه خيطا وخياطة والخيط القطيع من النعام ونعامة خيطاء قيل خيطها طول قصبها وعنقها وقيل اختلاط سوادها ببياضها والسواد والبياض لونان كل واحد منهما أصل بنفسه وبيضة الإسلام مجتمعة وابتاضوهم أي استأصلوهم بمعنى اقتلعوا بيضتهم والسواد والمساودة المسارة لأن الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل وسواد العراق سمي به لكثرة الماء والشجر الذي تسود به الأرض وسواد كل شيء شخصه وسويداء القلب وسواده دمه الذي فيه وقيل حبة القلب والعكوف والاعتكاف أصله اللزوم يقال عكفت بالمكان أي أقمت به ملازما له قال الطرماح:

فبات بنات الليل في الليل عكفا

عكوف البواكي بينهن صريع

وهو في الشرع عبارة عن اللبث في مكان مخصوص للعبادة والحد على وجوه الحد المنع وحدود الله فرائضه قال الزجاج هي ما منع الله من مخالفتها والحد جلد الزاني وغيره والحد حد السيف وغيره والحد حد الدار والحد فرق بين الشيئين والحد نهاية الشيء التي تمنع من أن يدخله ما ليس منه أو أن يخرج عنه ما هو منه وقال الخليل الحد الجامع المانع والحداد البواب قال الأعشى:

فقمنا ولما يصح ديكنا

إلى جونة عند حدادها يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها وكل من منع شيئا فهو حداد ومن ذلك أحدت المرأة على زوجها معناه امتنعت من الزينة والحديد إنما سمي حديدا لأنه يمتنع به من الأعداء فأصل الباب المنع.

النزول:

روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد الله قال كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له مطعم بن جبير أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة وفارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا وكان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله قد حرم علي الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله فرق له وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله هذه الآية فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر واختلفت العامة في اسم هذا الرجل من الأنصار فقال بعضهم قيس بن صرمة وقيل أبو صرمة وقيل أبو قيس بن صرمة وقيل صرمة بن إياس وقالوا جاء إلى رسول الله فقال عملت في النخل نهاري أجمع حتى إذا أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني فأبطأت فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الأكل وقد أمسيت وقد جهدني الصوم فقال عمر يا رسول الله أعتذر إليك من مثله رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فأتيت امرأتي وقام رجال واعترفوا بمثل الذي سمعوا فنزلت الآية عن ابن عباس والسدي.

المعنى:

ثم بين سبحانه وقت الصيام وما يتعلق به من الأحكام فقال ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم﴾ أي الجماع وقال ابن عباس أن الله سبحانه حيي يكني بما شاء أن الرفث واللباس والمباشرة والإفضاء هو الجماع وقال الزجاج الرفث هو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة وهذا يقتضي تحريما متقدما أزيل عنهم والمراد بليلة الصيام الليلة التي يكون في غدها الصوم وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر إلا أول ليلة من شهر رمضان فإنه يستحب ذلك لمكان الآية والأشبه أن يكون المراد به ليالي الشهر كله وإنما وحده لأنه اسم جنس يدل على الكثرة ﴿هن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن كما قال ﴿وجعلنا الليل لباسا﴾ أي سكنا عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والمعنى تلابسونهن وتخالطونهن بالمساكنة أي قل ما يصبر أحد الزوجين عن الآخر وقيل إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا لصاحبه وقال الربيع هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ﴿علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم﴾ لما حرم عليهم الجماع والأكل بعد النوم وخالفوا في ذلك ذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك التحريمة فقال ﴿علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم﴾ بالمعصية أي لا تؤدون الأمانة بالامتناع عن المباشرة وقيل معنى تختانون تنقصون أنفسكم من شهواتها وتمنعونها من لذاتها باجتناب ما نهيتم عنه فخففه الله عنكم ﴿فتاب عليكم﴾ أي قبل توبتكم وقيل معناه فرخص لكم وأزال التشديد عنكم ﴿وعفا عنكم﴾ فيه وجهان (أحدهما) غفر ذنوبكم (والآخر) أزال تحريم ذلك عنكم وذلك عفو عن تحريمه عليهم ﴿فالآن باشروهن﴾ بالليل أي جامعوهن لفظه أمر ومعناه الإباحة ﴿وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ فيه قولان (أحدهما) اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد عن الحسن وأكثر المفسرين وهو أن يجامع الرجل أهله رجاء أن يرزقه الله ولدا يعبده ويسبح له (والآخر) اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بينه في كتابه فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه وقوله ﴿وكلوا واشربوا﴾ إباحة للأكل والشرب ﴿حتى يتبين لكم﴾ أي ليظهر ويتميز لكم على التحقيق الخيط الأبيض من الخيط الأسود أي النهار من الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني وقيل بياض الفجر من سواد الليل وقيل بياض أول النهار من سواد آخر الليل وإنما شبه ذلك بالخيط لأن القدر الذي يحرم الإفطار من البياض يشبه الخيط فيزول به مثله من السواد ولا اعتبار بالانتشار ﴿من الفجر﴾ يحتمل - من - معنيين (أحدهما) أن يكون بمعنى التبعيض لأن المعنى من بعض الفجر وليس الفجر كله عن ابن دريد (والآخر) أنه للتبيين لأنه بين الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر وروي أن عدي بن حاتم قال للنبي إني وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي فضحك رسول الله حتى رؤيت نواجذه ثم قال يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل فابتداء الصوم من هذا الوقت ثم بين تعالى الانتهاء فقال ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾ أي من وقت طلوع الفجر الثاني وهو المستطيل المعترض الذي يأخذ الأفق وهو الفجر الصادق الذي يجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل وهو بعد غروب الشمس وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق وإقبال السواد منه وإلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة وعدم الجبال والروابي فقد دخل الليل وقوله ﴿ولا تباشروهن﴾ في معناه قولان هاهنا (أحدهما) أنه أراد به الجماع عن ابن عباس والحسن وقتادة (والثاني) أنه أراد الجماع وكل ما دونه من قبلة وغيرها من مالك وابن زيد وهو مذهبنا وقوله ﴿وأنتم عاكفون في المساجد﴾ أي معتكفون أي لا تباشروهن في حال اعتكافكم في المساجد والاعتكاف لا يصح عندنا إلا في أحد المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد النبي ومسجد الكوفة ومسجد البصرة وعند سائر الفقهاء يجوز في سائر المساجد إلا أن مالكا قال أنه يختص بالجامع ولا يصح الاعتكاف عندنا إلا بصوم وبه قال أبو حنيفة ومالك وعند الشافعي يصح بغير صوم وعندنا لا يكون إلا في ثلاثة أيام وعند أبي حنيفة يوم واحد وعند مالك عشرة أيام لا يجوز أقل منه وعند الشافعي ما شاء ولو ساعة واحدة وفي الآية دلالة على تحريم المباشرة في الاعتكاف ليلا ونهارا لأنه علق المباشرة بحال الاعتكاف وقوله ﴿تلك حدود الله﴾ تلك إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية حدود الله حرمات الله عن الحسن وقيل معناه معاصي الله عن الضحاك وقيل ما منع الله منه عن الزجاج ﴿فلا تقربوها﴾ أي فلا تأتوها وقيل معناه تلك فرائض الله فلا تقربوها بالمخالفة ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان الذي ذكر ﴿يبين الله آياته للناس﴾ أي حججه وأدلته على ما أمرهم به ونهاهم عنه ﴿لعلهم يتقون﴾ أي لكي يتقوا معاصيه وتعدي حدوده فيما أمرهم به ونهاهم عنه وأباحهم إياها وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد التقوى من جميع الناس.