الآيـة 178

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿178﴾

اللغة:

كتب فرض وأصل الكتابة الخط الدال على معنى فسمي به ما دل على الفرض قال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

والقصاص والمقاصة والمعاوضة والمبادلة نظائر يقال قص أثره أي تلاه شيئا بعد شيء ومنه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه وقيل هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء والحر نقيض العبد والحر من كل شيء أكرمه وأحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ وتحرير الكتابة إقامة حروفها والعفو الترك وعفت الدار أي تركت حتى درست والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها وقيل معنى العفو هاهنا ترك القود بقبول الدية من أخيه وجمع الأخ الأخوة إذا كانوا لأب فإن لم يكونوا لأب فهم إخوان ذكر ذلك صاحب العين والتأدية والأداء تبليغ الغاية يقال أدى فلان ما عليه وفلان آدى للأمانة من غيره.

الإعراب:

فاتباع مبتدأ وخبره محذوف أي فعليه اتباع أو خبر لمبتدء محذوف أي فحكمه اتباع ولو كان في غير القرآن لجاز فاتباعا بالمعروف وأداءا إليه بإحسان على معنى فليتبع اتباعا وليؤد أداء ولكن الرفع عليه إجماع القراء وهو الأجود في العربية.

النزول:

نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام فأنزل الله هذه الآية.

المعنى:

لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان والتمسك بالشرائع بين الشرائع وبدأ بالدماء والجراح فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم﴾ أي فرض عليكم وأوجب وقيل كتب عليكم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ على جهة الفرض ﴿القصاص في القتلى﴾ المساواة في القتلى أي يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول ولا خلاف أن المراد به قتل العمد لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطأ المحض وشبيه العمد ومتى قيل كيف قال ﴿كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ والأولياء مخيرون بين القصاص والعفو وأخذ الدية والمقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه فالجواب من وجهين (أحدهما) أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص والفرض قد يكون مضيقا وقد يكون مخيرا فيه (والثاني) أنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم وأما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين ومن يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي لأنه حق الآدمي ويجب على القاتل تسليم النفس ﴿الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ قال الصادق ولا يقتل حر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد وهذا مذهب الشافعي وقال إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل وهذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة أن يرد فضل ما بينهما وكذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي السلام ويجوز قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر إجماعا وليس في الآية ما يمنع من ذلك لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر ولا العبد بالحر فما تضمنته الآية معمول به وما قلناه مثبت بالإجماع وبقوله سبحانه النفس بالنفس وقوله ﴿فمن عفي له من أخيه شيء﴾ فيه قولان (أحدهما) أن معناه من ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به وأراد بالأخ المقتول سماه أخا للقاتل فدل أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع وإن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله وقيل أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم سماه الله أخا للقاتل وقوله ﴿شيء﴾ دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض والله تعالى قال ﴿فمن عفي له من أخيه شيء﴾ والضمير في قوله ﴿له﴾ وفي ﴿أخيه﴾ كلاهما يرجع إلى من وهو القاتل أي من ترك له القتل ورضي منه بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد ولم يذكر سبحانه العافي لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص والمطالبة وهو ولي الدم والقول الآخر أن المراد بقوله ﴿فمن عفي له﴾ ولي الدم والهاء في أخيه يرجع إليه وتقديره فمن بذل له من أخيه يعني أخا الولي وهو المقتول الدية ويكون العافي معطي المال ذكر ذلك عن مالك ومن نصر هذا القول قال أن لفظ شيء منكر والقود معلوم فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة فيجب أن يكون المعنى فمن بذل له من أخيه مال وذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر ومقدار الدية أو أقل أو أكثر فصح أن يقال فيه شيء وهذا ضعيف والقول الأول أظهر وقد ذكرنا الوجه في تنكير قوله ﴿شيء﴾ هناك وأما الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج والزوجة عندنا وأما غير أصحابنا من العلماء فلا يستثنونهما وقوله ﴿فاتباع بالمعروف﴾ أي فعلى العافي اتباع بالمعروف هي أن لا يشدد في الطلب وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة على حقه وعلى المعفو له ﴿وأداء إليه بإحسان﴾ أي الدفع عند الإمكان من غير مطل وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل المراد فعلى المعفو عنه الاتباع والأداء وقوله ﴿ذلك﴾ إشارة إلى جميع ما تقدم ﴿تخفيف من ربكم ورحمة﴾ معناه أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو وخيركم بينها وكان لأهل التوراة القصاص أو العفو ولأهل الإنجيل العفو أو الدية وقوله ﴿فمن اعتدى بعد ذلك﴾ أي بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل بأن قتل غير قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية وقيل بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص قال القاضي ويجب حمله على الجميع لعموم اللفظ ﴿فله عذاب أليم﴾ في الآخرة.