الآيات 85-89

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن مِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿85﴾ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ﴿86﴾ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴿87﴾ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴿88﴾ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴿89﴾

اللغة:

الظهير المعين وهو المظاهر وأصله من الظهر كان كل واحد يسند ظهره إلى ظهر صاحبه فيتقوى به والتصريف تصيير الشيء دائرا في الجهات وكذلك تصريف الكلام هو تصييره دائرا في المعاني المختلفة.

الإعراب:

﴿إلا رحمة من ربك﴾ الرحمة استثناء من الأول والمعنى ولكن الله تعالى رحمك فأثبت ذلك في قلبك ﴿لا يأتون﴾ مرفوع لأنه غلب جواب القسم على جواب أن واللام في لئن موطئة للقسم دالة عليه والتقدير فو الله لا يأتون بمثله ومثله قول كثير:

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذا لا أقيلها.

المعنى:

ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿ويسئلونك﴾ يا محمد ﴿عن الروح﴾ اختلف في الروح المسئول عنه على أقوال (أحدها) أنهم سألوه عن الروح الذي هو في بدن الإنسان ما هو ولم يجبهم وسأله عن ذلك قوم من اليهود عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة واختاره الجبائي وعلى هذا فإنما عدل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين ولأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين فلو صدر الجواب لازدادوا عنادا وقد قيل إن اليهود قالت لكفار قريش سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي وإن لم يجبكم فهو نبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وإن يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ودلالة لنبوته (وثانيها) أنهم سألوا عن الروح أ هي مخلوقة محدثة أم ليست كذلك فقال سبحانه ﴿قل الروح من أمر ربي﴾ أي من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه وعلى هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوا عنه هو الذي به قوام الجسد على قول ابن عباس وغيره أم جبرائيل (عليه السلام) على قول الحسن وقتادة أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميع ذلك على ما روي عن علي (عليه السلام) أم عيسى (عليه السلام) فإنه قد سمي بالروح (وثالثها) أن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك أو كيف صار معجزا وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار وقد سمى الله تعالى القرآن روحا في قوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فقال سبحانه قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي أنزله دلالة علي دلالة نبوتي وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم وعلى هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه وأما على القول الأول فيكون معنى قوله ﴿الروح من أمر ربي﴾ هو من الأمر الذي يعلمه ربي ولم يطلع عليه أحد واختلف العلماء في ماهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين واختاره الأجل المرتضى علم الهدى قدس الله روحه وقيل جسم هوائي على بينة حيوانية في كل جزء منه حياة عن علي بن عيسى قال فلكل حيوان روح وبدن إلا أن منه من الأغلب عليه الروح ومنه من الأغلب عليه البدن وقيل إن الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل هو الحياة التي يتهيأ به المحل لوجود القدرة والعلم والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (ره) والبلخي وجماعة من المعتزلة البغداديين وقيل هو معنى في القلب عن الأسواري وقيل إن الروح الإنسان وهو الحي المكلف عن ابن الإخشيد والنظام وقال بعض العلماء إن الله تعالى خلق الروح من ستة أشياء من جوهر النور والطيب والبقاء والحياة والعلم والعلو أ لا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين ويسمع بالأذنين ويكون طيبا فإذا خرج من الجسد نتن الجسد ويكون باقيا فإذا فارقه الروح بلي وفنى ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا ويكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا ويكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وأجسامهم قد بليت في التراب وقوله ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ قيل هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وغيره إذا لم يبين له الروح ومعناه وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها وقيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت له اليهود عند ذلك كيف وقد أعطانا الله التوراة فقال التوراة في علم الله قليل ثم قال سبحانه ﴿ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك﴾ يعني القرآن ومعناه أني أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعت غيرك ولكني دبرتك بالرحمة لك فأعطيتك ما تحتاج إليه ومنعتك ما لا تحتاج إلى النص عليه وإن توهم قوم أنه مما تحتاج إليه فتدبر أنت بتدبير ربك وارض بما اختاره لك ﴿ثم لا تجد لك به علينا وكيلا﴾ أي ثم لو فعلنا ذلك لم تجد علينا وكيلا يستوفي ذلك منا وقيل معناه ولو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك وصدر أمتك حتى لا يوجد له أثر ثم لا تجد له حفيظا يحفظه عليك ويحفظ ذكره على قلبك عن الحسن وأبي مسلم والأصم قالوا وفي هذا دلالة على أن السؤال وقع عن القرآن ﴿إلا رحمة من ربك﴾ معناه لكن رحمة من الله ربك لك أعطاك ما أعطاك من العلوم ومنعك ما منعك منها وأثبت القرآن في قلبك وقلوب المؤمنين ﴿إن فضله كان﴾ فيما مضى وفيما يستقبل ﴿عليك كبيرا﴾ عظيما إذ اختارك للنبوة وخصك بالقرآن فقابله بالشكر وقال ابن عباس يريد حيث جعلك سيد ولد آدم وختم ربك النبيين وأعطاك المقام المحمود ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله﴾ معناه قل يا محمد لهؤلاء الكفار لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة والدرجة القصوى من حسن النظم وجودة المعاني وتهذيب العبارة والخلو من التناقض واللفظ المسخوط والمعنى الدخول على حد يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله ﴿ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ أي معينا على ذلك مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه عن ابن عباس وفي هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال لو نشاء لقلنا مثل هذا قال أبو مسلم وفي هذا أيضا دلالة على أن السؤال بالروح وقع عن القرآن لأنه من تمام ما أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يجيئهم به ﴿ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ معناه لقد بينا لهم في هذا القرآن من كل ما يحتاج إليه من الدلائل والأمثال والعبر والأحكام وما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ليتفكروا فيها ﴿فأبى أكثر الناس إلا كفورا﴾ أي جحودا للحق والمثل قد يكون الشيء بعينه وقد يكون صفة للشيء وقد يكون شبهة.