الآيات 155-158

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿155﴾ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿156﴾ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾

اللغة:

البهتان الكذب الذي يتحير فيه من شدته وعظمته وقد مر معنى المسيح في سورة آل عمران يقال قتلت الشيء خبرا وعلما أي علمته علما تاما وذلك لأن القتل هو التذليل ويكون كالدرس أنه من التذليل ومنه الرسم الدارس لذلته فقولك درست العلم بمعنى ذللته ويقال في المثل قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها قال الأصمعي معناه ضبط الأمر من يعلمه وأقول معناه أن العالم يغلب أهل أرضه والجاهل مغلوب مقهور كما أن الجاهل بالطريق لا يهتدي فيتردد فيه.

الإعراب:

ما في قوله ﴿فبما نقضهم﴾ لغو أي فبنقضهم ومعناه التوكيد أي فبنقضهم ميثاقهم حقا والجالب للباء في فبنقضهم والعامل فيه قيل أنه محذوف أي لعناهم وقيل العامل فيه قوله ﴿حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ وقوله ﴿فبظلم من الذين﴾ بدل من قوله (فبنقضهم) عن الزجاج وعلى هذا فقوله ﴿بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ إلى آخر الآية اعتراض وكذلك قوله ﴿وما قتلوه وما صلبوه﴾ إلى قوله ﴿شهيدا﴾ وقوله ﴿عيسى بن مريم﴾ عطف بيان ركب مع ابن وجعل كاسم واحد لوقوع ابن بين علمين مع كونه صفة والصفة ربما ركبت مع الموصوف فجعلا كاسم واحد نحو لا رجل ظريف في الدار ورسول الله صفة للمسيح أو بدل منه و﴿اتباع الظن﴾ منصوب على الاستثناء وهو استثناء منقطع وليس من الأول فالمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة ومجازاته إياهم بها فقال ﴿فبما نقضهم﴾ أي فبنقض هؤلاء الذين تقدم ذكرهم ووصفهم ﴿ميثاقهم﴾ أي عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا بها في التوراة ﴿وكفرهم ب آيات الله﴾ أي جحودهم بأعلام الله وحججه وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله ﴿وقتلهم الأنبياء﴾ بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم ﴿بغير حق﴾ أي بغير استحقاق منهم لذلك بكبيرة أتوها أو خطيئة استوجبوا بها القتل وقد قدمنا القول في أمثال هذا وإنه إنما يذكر على سبيل التوكيد فإن قتل الأنبياء لا يمكن إلا أن يكون بغير حق وهو مثل قوله ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به والمعنى أن ذلك لا يكون البتة عليه برهان ﴿وقولهم قلوبنا غلف﴾ مضى تفسيره في سورة البقرة ﴿بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ قد شرحنا معنى الختم والطبع عند قوله ﴿ختم الله على قلوبهم﴾ ﴿فلا يؤمنون إلا قليلا﴾ أي لا يصدقون قوله إلا تصديقا قليلا وإنما وصفه بالقلة لأنهم لم يصدقوا بجميع ما كان يجب عليهم التصديق به ويجوز أن يكون الاستثناء من الذين نفي عنهم الإيمان فيكون المعنى إلا جمعا قليلا فكأنه سبحانه علم أنه يؤمن من جملتهم جماعة قليلة فيما بعد فاستثناهم من جملة من أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون وبه قال جماعة من المفسرين مثل قتادة وغيره وذكر بعضهم أن الباء في قوله ﴿فبما نقضهم﴾ يتصل بما قبله والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وبنقضهم ميثاقهم وبكفرهم وبكذا وبكذا فتبع الكلام بعضه بعضا وقال الطبري أن معناه منفصل مما قبله يعني فبهذه الأشياء لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر ذلك لدلالة قوله ﴿بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ على معنى ذلك لأن من طبع على قلبه فقد لعن وسخط عليه قال وإنما قال ذلك لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء والذين رموا مريم بالبهتان العظيم وقالوا قتلنا عيسى كانوا بعد موسى بزمان طويل ومعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لم يكن ذلك عقوبة على رميهم مريم بالبهتان ولا على قولهم ﴿إنا قتلنا المسيح﴾ فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة وهذا الكلام إنما يتجه على قول من قال أنه يتصل بما قبله ولا يتجه على قول الزجاج وهذا أقوى لأنه إذا أمكن إجراء الكلام على ظاهره من غير تقدير حذف فالأولى أن يحمل عليه وقوله ﴿وبكفرهم﴾ أي بجحود هؤلاء لعيسى ﴿وقولهم على مريم بهتانا عظيما﴾ أي أعظم كذب وأشنعه وهو رميهم إياها بالفاحشة عن ابن عباس والسدي قال الكلبي مر عيسى برهط فقال بعضهم لبعض قد جاءكم الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه بأمه فسمع ذلك عيسى فقال اللهم أنت ربي خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي اللهم العن من سبني وسب والدتي فاستجاب الله دعوته فمسخهم خنازير ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله﴾ يعني قول اليهود أنا قتلنا عيسى بن مريم رسول الله حكاه الله تعالى عنهم أي رسول الله في زعمه وقيل أنه من قول الله سبحانه لا على وجه الحكاية عنهم وتقديره الذي هو رسولي ﴿وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم﴾ واختلفوا في كيفية التشبيه فروي عن ابن عباس أنه قال لما مسخ الله تعالى الذين سبوا عيسى وأمه بدعائه بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود فخاف أن يدعو عليه فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم ويعينه عليهم وذلك معنى قوله ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه فيقول لهم يا معشر اليهود إن الله تعالى يبغضكم فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها فرفعه جبرائيل إلى السماء فبعث يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ليدخل عليه الخوخة فيقتله فدخل فلم يره فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله في الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى فلما خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه وقيل ألقى عليه شبه وجه عيسى ولم يلق عليه شبه جسده فقال بعض القوم أن الوجه وجه عيسى والجسد جسد طيطانوس وقال بعضهم إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى وإن كان هذا عيسى فأين طيطانوس فاشتبه الأمر عليهم وقال وهب بن منبه أتى عيسى ومعه سبعة من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم اسمه سرجس أنا فخرج إليهم فقال أنا عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه ورفع الله عيسى من يومه ذلك وبه قال قتادة ومجاهد وابن إسحاق وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه ألقي على جميعهم بل قالوا ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى من بينهم قال الطبري وقول وهب أقوى لأنه لو ألقي الشبه على واحد منهم مع قول عيسى أيكم يلقى شبهي فله الجنة ثم رأوا عيسى رفع من بينهم قال الطبري لما اشتبه عليهم ولما اختلفوا فيه وإن جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين ما عرفوه لكن ألقى الشبه على جميعهم وكانوا يرون كل واحد منهم بصورة عيسى فلما قتل أحدهم اشتبه الحال عليهم وقال أبو علي الجبائي إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو إليه فتغيرت حليته وقالوا قد قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى فلما دخلوه كان عيسى قد رفع من بينهم فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود به ففعلوا ذلك والذين اختلفوا فيه هم غير الذين صلبوه وإنما باقي اليهود وقيل إن الذي دلهم عليه وقال هذا عيسى أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهما وكان منافقا ثم أنه ندم على ذلك واختنق حتى قتل نفسه وكان اسمه بودس زكريا بوطا وهو ملعون في النصارى وبعض النصارى يقول أن بودس زكريا بوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه وهو يقول لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه وقيل أنهم حبسوا المسيح مع عشرة من أصحابه في بيت فدخل عليهم رجل من اليهود فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى فقتلوا الرجل عن السدي ﴿وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه﴾ قيل يعني بذلك عامتهم لأن علماءهم علموا أنه غير مقتول عن الجبائي وقيل أراد بذلك جماعة اختلفوا فقال بعضهم قتلناه وقال بعضهم لم نقتله ﴿ما لهم به من علم إلا اتباع الظن﴾ أي لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى ولم يكن به وإنما شكوا في ذلك لأنهم عرفوا عدة من في البيت فلما دخلوا عليهم وفقدوا واحدا منهم التبس عليهم أمر عيسى وقتلوا من قتلوه على شك منهم في أمر عيسى هذا على قول من قال لم يتفرق أصحابه حتى دخل عليهم اليهود وأما من قال تفرق أصحابه عنه فإنه يقول كان اختلافهم في أن عيسى هل كان فيمن بقي أو كان فيمن خرج اشتبه الأمر عليهم وقال الحسن معناه فاختلفوا في عيسى فقالوا مرة هو عبد الله ومرة هو ابن الله ومرة هو الله وقال الزجاج معنى اختلاف النصارى فيه أن منهم من ادعى أنه إله لم يقتل ومنهم من قال قتل ﴿وما قتلوه يقينا﴾ اختلف في الهاء في ﴿قتلوه﴾ فقيل أنه يعود إلى الظن أي ما قتلوا ظنهم يقينا كما يقال ما قتله علما عن ابن عباس وجويبر ومعناه ما قتلوا ظنهم الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقينا أنه عيسى ولا أنه غيره لكنهم كانوا منه على شبهة وقيل إن الهاء عائد إلى عيسى يعني ما قتلوه يقينا أي حقا فهو من باب تأكيد الخبر عن الحسن أراد أن الله تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق واليقين ﴿بل رفعه الله إليه﴾ يعني بل رفع الله عيسى إليه ولم يصلبوه ولم يقتلوه وقد مر تفسيره في سورة آل عمران عند قوله إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴿وكان الله عزيزا حكيما﴾ معناه لم يزل الله سبحانه منتقما من أعدائه حكيما في أفعاله وتقديراته فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم كما حل بأوائلكم في تكذيبهم رسله عن ابن عباس وما مر في تفسير هذه الآية من أن الله ألقى شبه عيسى على غيره فإن ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه ويجوز أن يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة والتشديد في التكليف وإن كان ذلك خارقا للعادة فإنه يكون معجزا للمسيح كما روي أن جبرائيل كان يأتي نبينا في صورة دحية الكلبي ومما يسأل عن هذه الآية أن يقال قد تواترت اليهود والنصارى مع كثرتهم وأجمعت على أن المسيح قد قتل وصلب فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به ولو جاز ذلك فكيف يوثق بشيء من الأخبار والجواب أن هؤلاء دخلت عليهم الشبهة كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه وإنما أخبروا أنهم قتلوا رجلا قيل لهم أنه عيسى فهم في خبرهم صادقون وإن لم يكن المقتول عيسى وإنما اشتبه الأمر على النصارى لأن شبه عيسى ألقي على غيره فرأوا من هو على صورته مقتولا مصلوبا فلم يخبر أحد من الفريقين إلا عما رآه وظن أن الأمر على ما أخبر به فلا يؤدي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال.