الآيات 70-72

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴿70﴾ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴿71﴾ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴿72﴾

القراءة:

قرأ أهل البصرة أعمى الأولى بالإمالة و﴿أعمى﴾ الثانية بالتفخيم وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة فيهما والباقون بالتفخيم فيهما وقرأ زيد عن يعقوب يوم يدعوا بالياء والباقون بالنون وفي الشواذ قراءة الحسن يوم يدعوا بضم الياء وفتح العين.

الحجة:

قال أبو علي: من أمالهما فإنه حسن لأنه ينحو بالألف نحو الياء ليعلم أنها ينقلب إلى الياء وإن كانت فاصلة أو مشبهة بالفاصلة فالإمالة فيها حسنة لأن الفاصلة موضع وقف والألف تخفى في الوقف فإذا أمالها نحي بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين ومما يقوي ذلك أن من العرب من يقلب هذه الألفات في الوقف ياءات ليكون أبين لها قالوا أفعى وحبلى ومنهم من يقول أفعو وهم كأنهم أحرص على البيان من الأولين من حيث كانت الواو أظهر من الياء والياء أخفى منها من حيث كانت أقرب إلى الألف من الواو إليها وأما من أمال الألف من الكلمة الأولى ولم يمل من الثانية فإنه يجوز أن لا يجعل أعمى الكلمة الثانية عبارة عن المؤوف الجارحة ولكنه جعله أفعل من كذا مثل أبلد من فلان فجاز أن يقول فيه أفعل من كذا وإن لم يجز أن يقول ذلك في المصاب ببصره فإذا جعله كذلك لم يقع الألف في آخر الكلمة لأن آخرها إنما هو من كذا وإنما تحسن الإمالة في الأواخر لما تقدم وقد حذف من أفعل الذي هو للتفضيل الجار والمجرور وهما مرادان في المعنى مع الحذف وذلك نحو قوله ﴿فإنه يعلم السر﴾ وأخفى المعنى من السر وكذلك قولهم عام أول أي أول من عامك وكذلك قوله ﴿فهو في الآخرة أعمى﴾ أي أعمى منه في الدنيا ومعنى أعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب ويؤكد ذلك ظاهر ما عطف عليه من قوله ﴿وأضل سبيلا﴾ فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل فكذلك المعطوف عليه ومعنى أضل سبيلا في الآخرة إن ضلاله في الدنيا قد كان ممكنا من الخروج منه وضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه ويجوز أن يكون أعمى فيمن تأوله أفعل من كذا على هذا التأويل أيضا قال ابن جني: قراءة الحسن يوم يدعو على لغة من أبدل الألف في الوصل واوا نحو أفعو وحبلو ذكر ذلك سيبويه وأكثر هذا في الوقف.

المعنى:

لما تقدم قول إبليس هذا الذي كرمت علي ذكر سبحانه بعد ذلك تكرمة لبني آدم بأنواع الإكرام وفنون الأنعام فقال ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ أي فضلناهم عن ابن عباس وأجريت الصفة على جميعهم من أجل من كان فيهم على هذه الصفة كقوله ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ وقيل إنما عمهم بالتكرمة مع أن فيهم الكافر المهان لأن المعنى أكرمناهم بالنعم الدنيوية كالصور الحسنة وتسخير الأشياء لهم وبعث الرسل إليهم وقيل معناه عاملناهم معاملة المكرم على وجه المبالغة في الصفة واختلف فيما كرموا به فقيل بالقوة والعقل والنطق والتمييز عن ابن عباس والضحاك وقيل إنهم يأكلون باليد وكل دابة تأكل بفمها رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس وقيل بتعديل القامة وامتدادها عن عطاء وقيل بالأصابع يعملون بها ما يشاءون روي ذلك جابر بن عبد الله وقيل بتسليطهم على غيرهم وتسخير سائر الحيوانات لهم عن ابن جرير وقيل بأن جعل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) منهم عن محمد بن كعب وقيل بأنهم يعرفون الله ويأتمرون بأمره وقيل بجميع ذلك وغيره من النعم التي خصوا بها وهو الأوجه ﴿وحملناهم في البر والبحر﴾ في البر على الإبل والخيل والبغال والحمير وفي البحر على السفن ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ أي من الثمار والفواكه والأشياء الطيبة وسائر الملاذ التي خص بها بنو آدم ولم يشركهم شيء من الحيوان فيها ﴿وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ استدل بعضهم بهذا على إن الملائكة أفضل من الأنبياء قال لأن قوله ﴿على كثير﴾ يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه وليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق وهذا باطل من وجوه (أحدها) إن التفضيل هاهنا لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي عددنا بعضها (وثانيها) إن المراد بالكثير الجميع فوضع الكثير موضع الجميع والمعنى إنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير كما يقال بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد بذلك إني بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وأبحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس منيعا بل المقصود أني بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض وفي القرآن ومحاورات العرب من ذلك ما لا يحصى ولا يخفى ذلك على من عرف كلامهم قال سويد بن أبي كاهل في شعره:

من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا ولو أراد ذلك لم يكن مادحا لهم (وثالثها) أنه إذا سلم أن المراد بالتفضيل زيادة الثواب وإن لفظة من في قوله ﴿ممن خلقنا﴾ يفيد التبعيض فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم أو أكثرهم والفضل في بني آدم يختص بقليل من كثير وعلى هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ومتى قيل إذا كان معنى التكريم والتفضيل واحدا فما معنى التكرار (فجوابه) إن قوله ﴿كرمنا﴾ ينبىء عن الأنعام ولا ينبىء عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه وقيل إن التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل يتناول نعم الآخرة وقيل أن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية ﴿يوم ندعوا كل أناس بإمامهم﴾ فيه أقوال (أحدها) إن معناه بنبيهم عن مجاهد وقتادة ويكون المعنى على هذا أن ينادى يوم القيام فيقال هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأسمائهم ثم يقال هاتوا متبعي الشيطان وهاتوا متبعي رؤساء الضلالة وهذا معنى ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وروي أيضا عن علي (عليه السلام) إن الأئمة إمام هدى وإمام ضلالة ورواه الوالبي عنه بأئمتهم في الخير والشر (وثانيها) معناه بكتابهم الذي أنزل عليهم من أوامر الله ونواهيه فيقال يا أهل القرآن ويا أهل التوراة عن ابن زيد والضحاك (وثالثها) إن معناه بمن كانوا يأتمون به من علمائهم وأئمتهم عن الجبائي وأبي عبيدة ويجمع هذه الأقوال ما رواه الخاص والعام عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) بالأسانيد الصحيحة أنه روي عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال فيه يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال أ لا تحمدون الله إذا كان يوم القيامة فدعا كل قوم إلى من يتولونه ودعانا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفزعتم إلينا فإلى أين ترون يذهب بكم إلى الجنة ورب الكعبة قالها ثلاثا (ورابعها) إن معناه بكتابهم الذي فيه أعمالهم عن ابن عباس في رواية أخرى والحسن وأبي العالية (وخامسها) معناه بأمهاتهم عن محمد بن كعب ﴿فمن أوتي كتابه بيمينه﴾ أي فمن أعطي كتاب عمله الذي فيه طاعاته وثواب أعماله بيمينه ﴿فأولئك يقرءون كتابهم﴾ فرحين مسرورين لا يجنبون عن قراءته لما يرون فيه من الجزاء والثواب ﴿ولا يظلمون فتيلا﴾ أي لا ينقصون ثواب أعمالهم مقدار فتيل وهو المفتول الذي في شق النواة عن قتادة وقيل الفتيل في بطن النواة والنقير في ظهرها والقطمير قشر النواة عن الحسن جعل الله إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا والخلاص وإعطاء الكتاب باليسار ومن وراء الظهر علامة السخط والهلاك ﴿ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى﴾ ذكر في معناه أقوال (أحدها) إن هذه إشارة إلى ما تقدم ذكره من النعم ومعناه أن من كان في هذه النعم وعن هذه العبر أعمى فهو عما غيب عنه من أمر الآخرة أعمى عن ابن عباس (وثانيها) إن هذه إشارة إلى الدنيا ومعناه من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق ذاهبا عن الدين فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة أو عن الحجة إذا سئل فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا يكون يوم القيامة منقطع الحجة فالأول اسم والثاني فعل من العمى وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة (وثالثها) إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب فإنه في الآخرة أعمى العين يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا عن أبي مسلم قال وهذا كقوله ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ وتأول قوله سبحانه ﴿فبصرك اليوم حديد﴾ بأن معناه الأخبار عن قوة المعرفة والجاهل بالله سبحانه يكون عارفا به في الآخرة وتقول العرب فلان بصير بهذا الأمر وإنما أرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين وعلى هذا فليس يكون قوله ﴿فهو في الآخرة أعمى﴾ على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله ﴿وأضل سبيلا﴾ ويكون التقدير وهو أضل سبيلا قال ويجوز أن يكون أعمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط فإنه إذ لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى كما يقال فلان سخين العين (ورابعها) إن معناه من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة أضل لأنه لا يقبل توبته عن الحسن واختاره الزجاج على هذا القول وقال تأويله إنه إذا عمي في الدنيا وقد عرفه الله الهدى وجعل له إلى التوبة وصلة فعمي عن رشده ولم يتب فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية.

النظم:

قيل في وجه اتصال قوله ﴿يوم ندعوا كل أناس بإمامهم﴾ بما قبله وجوه (أحده) أنه سبحانه ذكر تفضيل بني آدم ثم بين أن ذلك التفضيل إنما يكون في ذلك اليوم فيستحق المهتدون الثواب بهدايتهم (وثانيها) أنها اتصلت بقوله ﴿إن عذاب ربك كان محذورا﴾ أي فاحذروا يوم يدعى كل أمة بإمامهم (وثالثها) إنها اتصلت بقوله ﴿يعيدكم﴾ أي يعيدكم يوم يدعو (ورابعها) أنه تعالى ذكر فيما تقدم من آمن ومن كفر ثم بين في هاتين الآيتين ما أعد للفريقين من ثواب وعقاب وأنه يعطيهم ذلك على ما هو مكتوب في كتبهم عن أبي مسلم.