الآيات 13-15

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴿13﴾ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴿14﴾ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴿15﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر ويخرج له بضم الياء وفتح الراء وقرأ يعقوب ويخرج له بفتح الياء وضم الراء والباقون ﴿ونخرج﴾ بالنون وقرأ أبو جعفر وابن عامر تلقيه بضم التاء وفتح اللام وتشديد القاف والباقون ﴿يلقاه﴾ بفتح الياء وسكون اللام.

الحجة:

من قرأ ويخرج له فمعناه أنه يخرج له عمله أو يخرج له طائره يوم القيامة كتابا ويكون كتابا منصوبا على الحال ومن قرأ ويخرج فتقديره فيخرج له عمله أو طائره ويكون كتابا حالا أيضا من الضمير في يخرج كما في الأول ومن قرأ ﴿ونخرج﴾ بالنون فيكون كتابا مفعولا لنخرج ويجوز أن يكون منصوبا على التمييز على معنى ونخرج طائره له كتابا ويجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون بمعنى ذا كتاب أي مثبتا في الكتاب الذي قال فيه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقوله ﴿منشورا﴾ يكون منصوبا على الحال من الهاء في يلقاه على القراءات جميعا ومن قرأ ﴿يلقاه منشورا﴾ فإنه يدل عليه قوله وإذا الصحف نشرت ومن قرأ يلقاه فيدل عليه قوله ويلقون فيها تحية وسلاما.

اللغة:

الإنسان يقع على المذكر والمؤنث فإذا أردت الفصل قلت رجل وامرأة مثل ذلك فرس يقع على المذكر والمؤنث فإذا أردت الفصل قلت حصان وحجر وفي الهماليج برذون ورمكة وكل بعير يقع على المذكر والمؤنث فإذا فصلت قلت جمل وناقة واشتقاق الإنسان من الإنس أو الأنس وهو فعلان عند البصريين وقال الكوفيون هو من النسيان وأصله إنسيان حذفت الياء منه استخفافا واحتجوا على ذلك بقول العرب في تصغيره إنيسيان وهذه الياء عند البصريين زائدة وهو من التصغير الشاذ عندهم مثل عشيشة ومغيربان الشمس ولييلية وأشباه ذلك والطائر هاهنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به والطائر الذي يبرح فيتشاءم به والسانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك والأصل في هذا أنه إذا كان سانحا أمكن الرامي وإذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر وأنشد لكثير:

فلست بناسيها ولست بتارك

إذا أعرض الأدم الجواري سؤالها

أأدرك من أم الحكيم غبيطة

بها خبرتني الطير أم قد أتى لها يخبر في البيت الأخير أن الذي زجره طائر وأنشد لزهير في ذلك:

فلما أن تفرق آل ليلى

جرت بيني وبينهم ظبا

جرت سنحا فقلت لها مروعا

نوى مشمولة فمتى اللقاء وقال وقولهم سألت الطير وقلت للطير إنما هو زجرتها من خير أو شر ويقوي ما ذكره قول الكميت:

ولا أنا ممن يزجر الطير، همه:

أصاح غراب أم تعرض ثعلب وأنشد لحسان بن ثابت:

ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي

فما طائري فيها عليك بأخيلا أي ليس رأيي بمشئوم وأنشد لكثير:

أقول إذا ما الطير مرت مخيلة

لعلك يوما فانتظر أن تنالها وإنما قال ﴿طائره في عنقه﴾ ولم يقل في يده لينبه على لزوم ذلك له وتعلقه به كما يقال طوقتك كذا أي قلدتك كذا وألزمته إياك ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قال الأعشى:

قلدتك الشعر يا سلامة ذا الإفضال

والشعر حيث ما جعلا وقال الآخر:

إن لي حاجة إليك فقالت

بين أذني وعاتقي ما تريد والعرب تقيم هذا العضو مقام الذات فتقول أعتقت رقبة وطوقت عنقي أمانة ولذلك قال أبو حنيفة: إذا قال الإنسان عنقك أو رقبتك حر عتق لأنه يعبر بذلك عن جميع البدن ولو قال يدك أو شعرك حر لا يعتق لأنه لا يعبر بذلك عن جميع البدن وقال الشافعي: هما سواء يعتق في الحالين.

الإعراب:

موضع بنفسك رفع لأنه فاعل كفى وحسيبا نصب على التمييز له وقال أبو بكر السراج: المعنى كفى الاكتفاء بنفسك فالفاعل على هذا محذوف والجار والمجرور في موضع النصب على أصله وحسيبا نصب على الحال من كفى.

المعنى:

لما قدم سبحانه ذكر الوعيد أتبع ذلك بذكر كيفيته فقال ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه﴾ معناه وألزمنا كل إنسان عمله من خير أو شر في عنقه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة يريد جعلناه كالطوق في عنقه فلا يفارقه وإنما قيل للعمل طائرا على عادة العرب في قولهم جرى طائره بكذا ومثله قوله سبحانه ﴿قالوا طائركم معكم﴾ وقوله ﴿إنما طائرهم عند الله﴾ وقيل طائره يمنه وشؤمه عن الحسن وهو ما يتطير منه وقيل طائره حظه من الخير والشر عن أبي عبدة والقتيبي وخص العنق لأنه محل الطوق الذي يزين المحسن والغسل الذي يشين المسيء وقيل طائره كتابه وقيل معناه جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه لأن الطائر عندهم يستدل به على الأمور الكائنة فيكون معناه كل إنسان دليل نفسه وشاهد عليها إن كان محسنا فطائره ميمون وإن ساء فطائره مشئوم ﴿ونخرج له يوم القيامة كتابا﴾ وهو ما كتبه الحفظة عليهم من أعمالهم ﴿يلقاه﴾ أي يرى ذلك الكتاب ﴿منشورا﴾ أي مفتوحا معروضا عليه ليقرأه ويعلم ما فيه والهاء في له يجوز أن تكون عائدة إلى الإنسان ويجوز أن تكون عائدة إلى العمل ﴿اقرأ كتابك﴾ فهاهنا حذف أي ويقال له اقرأ كتابك قال قتادة يقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا وروى جابر بن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال يذكر العبد جميع أعماله وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا يا ويلتنا ما ل هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴿كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا﴾ أي محاسبا وإنما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ورأى جزاء أعماله مكتوبا بالعدل لم ينقص عن ثوابه شيء ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع وتضرع واعترف ولم يتهيأ له حجة ولا إنكار وظهر لأهل المحشر أنه لا يظلم قال الحسن: يا ابن آدم لقد أنصفك من جعلك حسيب نفسك ﴿من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه﴾ أي من اهتدى في الدنيا إلى دين الله وطاعته فمنفعة اهتدائه راجعة إليه ﴿ومن ضل فإنما يضل عليها﴾ أي ومن ضل عن الدين فضرر ضلاله راجع إلى نفسه وعقوبة ضلاله على نفسه ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا تحمل حاملة حمل أخرى أي ثقل ذنوب غيرها ولا يعاقب أحد بذنوب غيره وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تحن يمينك على شمالك وهذا مثل ضربه (عليه السلام) وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول من يقول أن أطفال الكفار يعذبون مع آبائهم في النار ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ معناه وما كنا معذبين قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد الأعذار إليهم والإنذار لهم بأبلغ الوجوه وهو إرسال الرسل إليهم مظاهرة في العدل وإن كان يجوز مؤاخذتهم على ما يتعلق بالعقل معجلا فعلى هذا التأويل تكون الآية عامة في العقليات والشرعيات وقال الأكثرون من المفسرين وهو الأصح أن المراد بالآية أنه لا يعذب سبحانه في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد البعثة فتكون الآية خاصة فيما يتعلق بالسمع من الشرعيات فأما ما كانت الحجة فيه من جهة العقل وهو الإيمان بالله تعالى فإنه يجوز العقاب بتركه وإن لم يبعث الرسول عند من قال إن التكليف العقلي ينفك من التكليف السمعي على أن المحققين منهم يقولون أنه وإن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول فإنه سبحانه لا يفعل ذلك مبالغة في الكرم والفضل والإحسان والطول فقد حصل من هذا أنه سبحانه لا يعاقب أحدا حتى ينفذ إليهم الرسل المنبهين إلى الحق الهادين إلى الرشد استظهارا في الحجة لأنه إذا اجتمع داعي العقل وداعي السمع تأكد الأمر وزال الريب فيما يلزم العبد وقد أخبر سبحانه في هذه الآية عن ذلك وهذا لا يدل على أنه لو لم يبعث رسولا لم يحسن منه أن يعاقب إذا ارتكب القبائح العقلية إلا أن يفرض في بعثة الرسول لطفا فإن عند ذلك لا يحسن منه سبحانه أن يعاقب أحدا إلا بعد أن يوجه إليه مما هو لطف له فيزاح بذلك علته.