الآيات 4-8

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿4﴾ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴿5﴾ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ﴿7﴾ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴿8﴾

القراءة:

ليسوء بفتح الهمزة شامي كوفي غير حفص إلا أن الكسائي يقرأ بالنون والباقون ﴿ليسوءوا﴾ بالياء وضم الهمزة على وزن ليسوعوا وفي الشواذ قراءة ابن عباس لتفسدن بضم التاء وفتح السين وعيسى الثقفي لتفسدن بفتح التاء وضم السين وقراءة علي (عليه السلام) عبيدا لنا وقراءة أبي السماك فحاسوا بالحاء وقراءة أبي بن كعب ليسوءا بالتنوين.

الحجة:

من قرأ ليسوء بالياء ففاعل ليسوء يجوز أن يكون أحد شيئين إما اسم الله تعالى لأن الذي تقدم بعثنا ورددنا لكم وأمددناكم بأموال وبنين وإما البعث ودل عليه بعثنا المتقدم كقوله ﴿لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم﴾ أي البخل خيرا لهم ومن قرأ لنسوء بالنون كان في المعنى كقول من قدر أن الفاعل ما تقدم من اسم الله تعالى وجاز أن ينسب المساءة إلى الله تعالى وإن كانت من الذين جاسوا خلال الديار في الحقيقة لأنهم فعلوا المساءة بقوة الله تعالى فجاز أن ينسب إليه وأما قوله ﴿ليسوئوا﴾ فمعناه إذا جاء وعد الآخرة أي وعد المرة الأخرى ليسؤا وجوهكم فحذف بعثناهم لأن ذكره قد تقدم والحجة في ليسوئوا أنه أشبه بما قبله وما بعده أ لا ترى أن قبله ثم بعثناهم وبعده ليدخلوا المسجد الحرام والمبعوثون في الحقيقة هم الذين يسوءونهم بقتلهم إياهم وأسرهم لهم فهو وفق المعنى وقال ﴿وجوهكم﴾ على أن الوجوه مفعول به ليسوء وعدي إلى الوجوه لأن الوجوه قد يراد به ذو الوجوه كقوله ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ وقوله ﴿وجوه يومئذ ناضرة﴾ و﴿وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة﴾ وقال النابغة:

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع

وأما قراءة أبي ليسوءا فالوجه فيه على قول ابن جني أن يكون على حذف الفاء كما يقال إذا سألتني فلأعطك كأنك تأمر نفسك ومعناه فلأعطينك واللامان بعده للأمر أيضا وهما ﴿وليدخلوا المسجد﴾ ﴿وليتبروا﴾ ويقوي ذلك أنه لم يأت لإذا جواب فيما بعد وأما من قرأ لتفسدن ولتفسدن فإحدى القراءتين شاهدة للأخرى لأن من أفسد فقد فسد وأما حاسوا فمعناه معنى جلسوا بعينه.

اللغة:

القضاء فصل الأمر على إحكام ومنه سمي القاضي ثم يستعمل بمعنى الخلق والإحداث كما قال فقضاهن سبع سماوات وبمعنى الإيجاب كما قال وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبمعنى الإعلام والإخبار بما يكون من الأمر وهو المعني هاهنا وأصله الإحكام والعلو الارتفاع وعلا فلان الشيء إذا أطاقه ويقال علا في المكارم يعلى علا فهو علي وعلا في المكان يعلو علوا فهو عال والجوس التخلل في الديار يقال تركت فلانا يجوس بني فلان ويجوسهم ويدوسهم أي يطأهم قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطئته فقد حسته وجسته قال حسان:

ومنا الذي لاقى بسيف محمد

فجاس به الأعداء عرض العساكر

وقيل الجوس طلب الشيء باستقصاء والكرة معناه الرجعة والدولة والنفير العدد من الرجال قال الزجاج: ويجوز أن يكون جمع نفر كما قيل العبيد والضئين والمعيز والكليب ونفر الإنسان ونفره ونفيره ونافرته رهطه الذين ينصرونه وينفرون معه والتتبير الإهلاك والتبار والهلاك والدمار واحد وكل ما يكسر من الحديد والذهب تبر والحصير الحبس ويقال للملك حصير لأنه محجوب قال لبيد:

وقماقم غلب الرقاب كأنهم

جن لدى باب الحصير قيام

والحصير البساط المرمول لحصر بعضه على بعض بذلك الضرب من النسج.

المعنى:

لما تقدم أمره سبحانه لبني إسرائيل عقب ذلك بذكر ما كان منهم وما جرى عليهم فقال ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل﴾ أي أخبرناهم وأعلمناهم ﴿في الكتاب﴾ أي في التوراة ﴿لتفسدن في الأرض مرتين﴾ أي حقا لا شك فيه أن خلافكم سيفسدون في البلاد التي تسكنونها كرتين وهي بيت المقدس وأراد بالفساد الظلم وأخذ المال وقتل الأنبياء وسفك الدماء وقيل كان فسادهم الأول قتل زكريا والثاني قتل يحيى بن زكريا عن ابن عباس وابن مسعود وابن زيد قالوا ثم سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا وسلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر وهو رجل خرج من بابل وقيل الفساد الأول قتل شعيا والثاني قتل يحيى وإن زكريا مات حتف أنفه عن محمد بن إسحاق قال وأتاهم في الأول بخت نصر وفي الثاني ملك من ملوك بابل وقيل كان الأول جالوت فقتله داود (عليه السلام) والثاني بخت نصر عن قتادة وقيل أنه سبحانه ذكر فسادهم في الأرض ولم يبين ما هو فلا يقطع على شيء مما ذكر عن أبي علي الجبائي ﴿ولتعلن علوا كبيرا﴾ أي ولتستكبرن ولتظلمن الناس ظلما عظيما والعلو نظير العتو هنا وهو الجرأة على الله تعالى والتعرض لسخطه ﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾ معناه فإذا جاء وقت أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما والوعد هنا بمعنى الموعود ووضع المصدر موضع المفعول به أي إذا جاء وقت الموعود لإفسادكم في المرة الأولى ﴿بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد﴾ أي سلطنا عليكم عبادا لنا أولي شوكة وقوة ونجدة وخلينا بينكم وبينهم خاذلين لكم جزاء على كفركم وعتوكم وهو مثل قوله ﴿أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا﴾ عن الحسن وقيل معناه أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم لأن ظاهر قوله تعالى ﴿عبادا لنا﴾ وقوله ﴿بعثنا﴾ يقتضي ذلك عن الجبائي وقيل يجوز أن يكونوا مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء ويجوز أن يكونوا كافرين فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء وسلطهم على نظرائهم من الكفار والفساق عن أبي مسلم ﴿فجاسوا خلال الديار﴾ أي فطافوا وسط الديار يترددون وينظرون هل بقي منهم أحد لم يقتلوه عن الزجاج ﴿و كان وعدا مفعولا﴾ أي موعودا كائنا لا خلف فيه ﴿ثم رددنا لكم الكرة عليهم﴾ أي رددنا لكم يا بني إسرائيل الدولة وأظهرناكم عليهم وعاد ملككم على ما كان عليه ﴿وأمددناكم بأموال وبنين﴾ أي وأكثرنا لكم أموالكم وأولادكم ورددنا لكم العدة والقوة ﴿وجعلناكم أكثر نفيرا﴾ أي أكثر عددا وأنصارا من أعدائكم ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم﴾ معناه إن أحسنتم في أقوالكم وأفعالكم فنفع إحسانكم عائد عليكم وثوابه واصل إليكم تنصرون على أعدائكم في الدنيا وتثابون في العقبي ﴿وإن أسأتم فلها﴾ معناه وإن أسأتم فقد أسأتم إلى أنفسكم أيضا لأن مضرة الإساءة عائدة إليها وإنما قال فلها على وجه التقابل لأنه في مقابلة قوله ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم﴾ كما يقال أحسن إلى نفسه ليقابل أساء إلى نفسه ولأن معنى قولك أنت منتهى الإساءة وأنت المختص بالإساءة متقارب فلذلك وضع اللام موضع إلى وقيل إن قوله ﴿فلها﴾ بمعنى فعليها كقوله تعالى لهم اللعنة أي عليهم اللعنة وقيل معناه فلها الجزاء والعقاب وإذا أمكن حمل الكلام على الظاهر فالأولى أن لا يعدل عنه وهذا الخطاب لبني إسرائيل ليكون الكلام جاريا على النسق والنظام ويجوز أن يكون خطابا لأمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيكون اعتراضا بين القصة كما يفعل الخطيب والواعظ يحكي شيئا ثم يعظ ثم يعود إلى الحكاية فكأنه لما بين أن بني إسرائيل لما علوا وبغوا في الأرض سلط عليهم قوما ثم لما تابوا قبل توبتهم وأظفرهم على عدوهم خاطب أمتنا بأن من أحسن عاد نفع إحسانه إليه ومن أساء عاد ضرره إليه ترغيبا وترهيبا ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ أي وعد المرة الأخرى من قوله ﴿لتفسدن في الأرض مرتين﴾ والمراد به جاء وعد الجزاء على الفساد في الأرض في المرة الأخيرة أو جاء وعد فسادكم في الأرض في المرة الأخيرة أي الوقت الذي يكون فيه ما أخبر الله عنكم من الفساد والعدوان على العباد ﴿ليسوئوا وجوهكم﴾ أي غزاكم أعداؤكم وغلبوكم ودخلوا دياركم ليسؤكم بالقتل والأسر يقال سئته أسوءة مساءة ومسائية وسوائية إذا أحزنته وقيل معناه ليسؤا كبراءكم ورؤساءكم وفي مساءة الأكابر وإهانتهم مساءة الأصاغر ﴿وليدخلوا المسجد﴾ أي بيت المقدس ونواحيه فكني بالمسجد وهو المسجد الأقصى عن البلد كما كنى بالمسجد الحرام عن الحرم ومعناه وليستولوا على البلد لأنه لا يمكنهم دخول المسجد إلا بعد الاستيلاء ﴿كما دخلوه أول مرة﴾ دل بهذا على أن في المرة الأولى قد دخلوا المسجد أيضا وإن لم يذكر ذلك ومعناه وليدخل هؤلاء المسجد كما دخله أولئك أول مرة ﴿وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾ أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا ويجوز أن يكون ما مع الفعل بتأويل المصدر والمضاف محذوف أي ليتبروا مدة علوهم ﴿عسى ربكم﴾ يا بني إسرائيل ﴿أن يرحمكم﴾ بعد انتقامه منكم إن تبتم ورجعتم إلى طاعته ﴿وإن عدتم عدنا﴾ معناه وإن عدتم إلى الفساد عدنا بكم إلى العقاب لكم والتسليط عليكم كما فعلناه فيما مضى عن ابن عباس قال إنهم عادوا بعد الأولى والثانية فسلط الله عليهم المؤمنين يقتلونهم ويأخذون منهم الجزية إلى يوم القيامة ﴿وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا﴾ أي سجنا ومحبسا عن ابن عباس.

القصة:

اختلف المفسرون في القصة عن هاتين الكرتين اختلافا شديدا فالأولى أن نورد من جملتها ما هو الأهم على سبيل الإيجاز قالوا لما عتا بنو إسرائيل في المرة الأولى سلط الله عليهم ملك فارس وقيل بخت نصر وقيل ملكا من ملوك بابل فخرج إليهم وحاصرهم وفتح بيت المقدس وقيل إن بخت نصر ملك بابل بعد سنحاريب وكان من جيش نمرود وكان لزانية لا أب له فظهر على بيت المقدس وخرب المسجد وأحرق التوراة وألقى الجيف في المسجد وقتل على دم يحيى سبعين ألفا وسبى ذراريهم وأغار عليهم وأخرج أموالهم وسبى سبعين ألفا وذهب بهم إلى بابل فبقوا في يده مائة سنة يستعبدهم المجوس وأولادهم ثم تفضل الله عليهم بالرحمة فأمر ملكا من ملوك فارس عارفا بالله سبحانه وتعالى فردهم إلى بيت المقدس فأقاموا به مائة سنة على الطريق المستقيم والطاعة والعبادة ثم عادوا إلى الفساد والمعاصي فجاءهم ملك من ملوك الروم اسمه انطياخوس فخرب بيت المقدس وسبى أهله وقيل غزاهم ملك الرومية وسباهم عن حذيفة وقال محمد بن إسحاق كان بنو إسرائيل يعصون الله تعالى وفيهم الأحداث والله يتجاوز عنهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أن الله تعالى بعث إليهم شعيا قبل مبعث زكريا وشعيا هو الذي بشر بعيسى (عليه السلام) وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان لبني إسرائيل ملك كان شعيا يرشده ويسدده فمرض الملك وجاء سنحاريب إلى باب بيت المقدس بستمائة ألف راية فدعا الله سبحانه شعيا فبرأ الملك ومات جمع سنحاريب ولم ينج منهم إلا خمسة نفر منهم سنحاريب فهرب وأرسلوا خلفه من أخذه ثم أمر سبحانه بإطلاقه ليخبر قومه بما نزل بهم فأطلقوه وهلك سنحاريب بعد ذلك بسبع سنين واستخلف بخت نصر ابن ابنه فلبث سبع عشرة سنة وهلك ملك بني إسرائيل ومرج أمرهم وتنافسوا في الملك فقتل بعضهم بعضا فقام شعيا فيهم خطيبا ووعظهم بعظات بليغة وأمرهم ونهاهم فهموا بقتله فهرب ودخل شجرة فقطعوا الشجرة بالمنشار فبعث الله إليهم أرميا من سبط هارون ثم خرج من بينهم لما رأى من أمرهم ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس وفعل ما فعل ثم رجع إلى بابل بسبايا بني إسرائيل وكانت هذه الدفعة الأولى وقيل أيضا أن سبب ذلك كان قتل يحيى بن زكريا وذلك أن ملك بني إسرائيل أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى وبلغ أمها فحقدت عليه وبعثته على قتله فقتله وقيل إنه لم يزل دم يحيى بن زكريا يغلي حتى قتل بخت نصر منهم سبعين ألفا أو اثنين وسبعين ألفا ثم سكن الدم وذكر الجميع أن يحيى بن زكريا هو المقتول في الفساد الثاني قال مقاتل كان بين فساد الأول والثاني مائتا سنة وعشر سنين وقيل إنما غزا بني إسرائيل في المرة الأولى بخت نصر وفي المرة الثانية ملوك فارس والروم وذلك حين قتلوا يحيى فقتلوا منهم مائة ألف وثمانين ألفا وخرب بيت المقدس فلم يزل بعد ذلك خرابا حتى بناه عمر بن الخطاب فلم يدخله بعد ذلك رومي إلا خائفا وقيل إنما غزاهم في المرة الأولى جالوت وفي الثانية بخت نصر والله أعلم.