الآيـة 174

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿174﴾

اللغة:

البطن خلاف الظهر والبطن الغامض من الأرض والبطن من العرب دون القبيلة.

الأعراب:

الذين مع صلته منصوب بأن وأولئك رفع بالابتداء وخبره ﴿ما يأكلون في بطونهم إلا النار﴾ والمبتدأ وخبره جملة في موضع الرفع بكونها خبر إن والنار نصب بيأكلون.

النزول:

المعني في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين إلا أنها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود وهم علماؤهم ككعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وكعب بن أسد وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا ويرجون كون النبي منهم فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيروا صفته فأنزل الله هذه الآية.

المعنى:

ثم عاد الكلام إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم فقال تعالى: ﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب﴾ أي صفة محمد والبشارة به عن ابن عباس وقتادة والسدي وقيل كتموا الأحكام عن الحسن والكتاب على القول الأول هو التوراة وعلى الثاني يجوز أن يحمل على القرآن وعلى سائر الكتب ﴿ويشترون به ثمنا قليلا﴾ أي يستبدلون به عرضا قليلا وليس المراد أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا بل الفائدة فيه أن كل ما يأخذونه في مقابلة ذلك من حطام الدنيا فهو قليل وللعرب في ذلك عادة معروفة ومذهب مشهور ومثله في القرآن كثير قال ﴿ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به﴾ ويقتلون النبيين بغير حق وفيه دلالة على أن من ادعى أن مع الله إلها آخر لا يقوم له على قوله برهان وإن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق وذلك بأن وصف الشيء بما لا بد أن يكون عليه من الصفة ومثله في الشعر قول النابغة:

يحفه جانبا نيق ويتبعه

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد أي ليس بها رمد فيكتحل له وقول الآخر:

لا يغمز الساق من أين ومن وصب

ولا يعض على شرسوفه الصفر أي ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها من أجلهما وقول سويد بن أبي الكاهل:

من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا أو جزعا غير سيء بل نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم وفي أمثال هذا كثيرة ﴿أولئك﴾ يعني الذين كتموا ذلك وأخذوا الأجر على الكتمان ﴿ما يأكلون في بطونهم إلا النار﴾ ومعناه أن أكلهم في الدنيا وإن كان طيبا في الحال فكأنهم لم يأكلوا إلا النار لأن ذلك يؤديهم إلى النار كقوله سبحانه في أكل مال اليتيم: ﴿إنما يأكلون في بطونهم نارا﴾ عن الحسن والربيع وأكثر المفسرين وقيل إنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم عقوبة لهم على كتمانهم فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة فسماه في الحال بما يصير إليه في المال وإنما ذكر البطون وإن كان الأكل لا يكون إلا في البطن لوجهين (أحدهما) أن العرب تقول جعت في غير بطني وشبعت في غير بطني إذا جاع من يجري جوعة مجرى جوعة وشبعه مجرى شبعه فذكر ذلك لإزالة اللبس (والآخر) أنه لما استعمل المجاز بأن أجري على الرشوة اسم النار حقق بذكر البطن ليدل على أن النار تدخل أجوافهم ﴿ولا يكلمهم الله يوم القيامة﴾ فيه وجهان (أحدهما) أنه لا يكلمهم بما يحبون وفي ذلك دليل على غضبه عليهم وإن كان يكلمهم بالسؤال بالتوبيخ وبما يغمهم كما قال ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم﴾ وقال اخسئوا فيها ولا تكلمون وهذا قول الحسن والجبائي (والثاني) أنه لا يكلمهم أصلا فتحمل آيات المسألة على أن الملائكة تسألهم عن الله وبأمره ويتأول قوله اخسئوا فيها على دلالة الحال وإنما يدل نفي الكلام على الغضب في الوجه الأول من حيث أن الكلام وضع في الأصل للفائدة فلما انتفى الفائدة على وجه الحرمان دل على الغضب فأما الكلام على وجه الغم والإيلام فخارج عن ذلك ﴿ولا يزكيهم﴾ معناه لا يثني عليهم ولا يصفهم بأنهم أزكياء ومن لا يثني الله عليه فهو معذب وقيل لا تقبل أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء وقيل معناه لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي موجع مؤلم.