الآيات 166-167

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴿166﴾ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴿167﴾

اللغة:

التبرؤ في اللغة والتفصي والتنزيل نظائر وأصل التبرؤ التولي والتباعد للعداوة وإذا قيل تبرأ الله من المشركين فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بالمعصية وأصله من الانفصال ومنه برأ من مرضه وبرىء يبرأ برءا وبراء وبريء من الدين براءة والاتباع طلب الاتفاق في مقال أو فعال أو مكان فإذا قيل اتبعه ليلحقه فالمراد ليتفق معه في المكان والتقطع التباعد بعد اتصال والسبب الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب والأسباب الوصلات واحدها سبب ومنه يسمى الحبل سببا لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره ومضت سبة من الدهر أي ملاوة والكرة الرجعة قال الأخطل:

ولقد عطفن على فزارة عطفة

كر المنيح وجلن ثم مجالا والكر نقيض الفر قال صاحب العين الكر الرجوع عن الشيء والكر الحبل الغليظ وقيل الشديد الفتل والحسرات جمع الحسرة وهي أشد الندامة والفرق بينها وبين الإرادة أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة والإرادة تتعلق بالمستقبل لأن الحسرة إنما هي على ما فأت بوقوعه أو ينقضي وقته والحسرة والندامة من النظائر يقال حسر يحسر حسرا وحسرة إذا كمد على الشيء الفائت وتلهف عليه وأصل الحسر الكشف تقول حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها وحسر عن ذراعيه حسرا والحاسر الذي لا درع عليه ولا مغفر.

الإعراب:

العامل في إذ قوله شديد العذاب أي وقت التبرؤ وانتصب فمتبرأ على أنه جواب التمني بالفاء كأنه قال ليت لنا كرورا فبرأ ، وكلما عطف الفعل على ما تأويله تأويل المصدر نصب بإضمار أن ولا يجوز إظهارها فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه لأنه لما حمل الأول على التأويل حمل الثاني على التأويل أيضا ويجوز فيه الرفع على الاستئناف أي فنحن نتبرأ منهم على كل حال وأما قوله ﴿لو أن لنا كرة﴾ ففي موضع الرفع لفعل محذوف تقديره لو صح أن لنا كرة لأن لو في التمني وفي غيره تطلب الفعل وإن شئت قلت تقديره لو ثبت أن لنا كرة وأقول إن جواب لو هنا أيضا في التقدير محذوف ولذلك أفاد لو في الكلام معنى التمني فيكون تقديره لو ثبت أن لنا كرة فنتبرأ منهم لتشفينا بذلك وجازيناهم صاعا بصاع وهذا شيء أخرجه لي الاعتبار ولم أره في الأصول وهو الصحيح الذي لا غبار عليه وبالله التوفيق وأما العامل في الكاف من كذلك فقوله ﴿يريهم الله﴾ أي يريهم الله أعمالهم حسرات كذلك أي مثل تبرؤ بعضهم من بعض وذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما وقيل تقديره يريهم أعمالهم حسرات كما أراهم العذاب وذلك لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما.

المعنى:

لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد ذكر سوء حالهم في المعاد فقال سبحانه ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا﴾ وهم القادة والرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة والربيع وعطاء وقيل هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن عن السدي وقيل هم شياطين الجن والإنس والأظهر هو الأول ﴿من الذين اتبعوا﴾ أي من اتباع السفل ﴿ورأوا﴾ أي رأى التابعون والمتبوعون ﴿العذاب﴾ أي عاينوه حين دخلوا النار ﴿وتقطعت بهم الأسباب﴾ فيه وجوه (أحدها) الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها عن مجاهد وقتادة والربيع (والثاني) الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس (والثالث) العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس أيضا (والرابع) تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها عن ابن زيد والسدي (والخامس) تقطعت بهم أسباب النجاة عن أبي علي وظاهر الآية يحتمل الكل فينبغي أن يحمل على عمومه فكأنه قيل قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا وذلك نهاية في الإياس ﴿وقال الذين اتبعوا﴾ يعني الأتباع ﴿لو أن لنا كرة﴾ أي عودة إلى دار الدنيا وحال التكليف ﴿فنتبرأ منهم﴾ أي من القادة في الدنيا ﴿كما تبرأوا منا﴾ في الآخرة ﴿كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم﴾ (أحدها) أن المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها عن الربيع وابن زيد وهو اختيار الجبائي والبلخي (والثاني) المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها وضيعوها عن السدي (والثالث) ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره (والرابع) أن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه والآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم ﴿وما هم بخارجين من النار﴾ أي يخلدون فيها بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة وذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة وأكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار كابن عباس وغيره وفي هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة والمعصية لأن ليس في المعقول أن يتحسر الإنسان على ترك ما كان لا يمكنه الانفكاك عنه أو على فعل ما كان لا يمكنه الإتيان به أ لا ترى أنه لا يتحسر الإنسان على أنه لم يصعد السماء لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء.