الآيـة 164

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿164﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي الريح على التوحيد والباقون على الجمع ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام وقرأ أبو جعفر ﴿الرياح﴾ على الجمع كل القرآن إلا في الذاريات وقرأ أبو عمرو ويعقوب وابن عامر وعاصم ﴿الرياح﴾ في عشرة مواضع في البقرة والأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم في موضعين وفاطر والجاثية وقرأ نافع اثني عشر موضعا هذه العشرة وفي إبراهيم وعسق وقرأ ابن كثير في خمسة مواضع البقرة والحجر والكهف وأول الروم والجاثية وقرأ الكسائي الرياح في ثلاثة مواضع في الحجر والفرقان وأول الروم ووافقه حمزة إلا في الحجر.

الحجة:

قال ابن عباس ﴿الرياح﴾ للرحمة والريح للعذاب وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا هبت ريح قال اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ويقوي هذا الخبر قوله سبحانه ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ويشبه أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنما قصد بقوله هذا الموضع وبقوله ولا تجعلها ريحا قوله سبحانه وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم وقد تختص اللفظة في التنزيل بشيء فيكون أمارة له فمن ذلك أن عامة ما جاء في القرآن من قوله ما يدريك مبهم غير مبين وما كان من لفظ ما أدريك مفسر كقوله وما أدريك ما الحاقة وما القارعة وما يدريك لعل الساعة قريب قال أبو علي ﴿وتصريف الرياح﴾ على الجمع أولى لأن كل واحدة من الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد ومن وحد فإنه أراد الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار والدرهم فأما قوله ولسليمان الريح عاصفة وإن كانت الرياح كلها سخرت له فالمراد بها الجنس والكثرة وإن كانت قد سخرت له ريح بعينها كان كقولك الرجل وأنت تريد به العهد وأما قوله وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح فهي واحدة يدلك عليه قوله فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا وفي الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور فهذا يدل على أنها واحدة.

اللغة:

الخلق هو الإحداث للشيء على تقدير من غير احتذاء على مثال ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله سبحانه لأنه لا أحد سوى الله يكون جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال وقد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضا بمعنى المرضي وهو بمنزلة المصدر وليس معنى الصدر بمعنى المخلوق واختلف أهل العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر فقال قوم هو الإرادة له وقال آخرون إنما هو على معنى مقدر كقولك وجود وعدم وحدوث وقدم وهذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة وإلا فالمعني بها هذا الموصوف في الحقيقة والسماوات جمع السماء وكل سقف سماء غير أنه إذا أطلق لم يفهم منه غير السماوات السبع وإنما جمعت السماوات ووحدت الأرض لأنه لما ذكر السماء بأنها سبع في قوله فسواهن سبع سموات وقوله خلق سبع سموات جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع وقوله ومن الأرض مثلهن وإن دل على معنى السبع فإنه لم يجر على جهة الإفصاع بالتفصيل في اللفظ وأيضا فإن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف وليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق لأنه دبر في كل سماء أمرها التدبير الذي هو حقها والاختلاف نقيض الاتفاق و﴿اختلاف الليل والنهار﴾ أخذ من الخلف لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة وقيل هو من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك والمختلفان ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته والليل هو الظلام المعاقب للنهار واحدته ليلة فهو مثل تمر وتمرة والنهار هو الضياء المتسع وأصله الاتساع ومنه قول الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها أي أوسعت وإنما جمعت الليلة ولم يجمع النهار لأن النهار بمنزلة المصدر كقولك الضياء يقع على الكثير والقليل على أنه قد جاء جمع النهار نهر على وجه الشذوذ وقال الشاعر:

لو لا الثريدان هلكنا بالضمر

ثريد ليل وثريد بالنهر والفلك السفن تقع على الواحد والجمع والفلك فلك السماء وكل مستدير فلك فإن صاحب العين قيل هو اسم للدوران خاصة وقيل بل اسم لإطباق سبعة فيها النجوم وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وأصل الباب الدور وما أنزل الله من السماء وقال قوم السماء يقع على السحاب لأن كل شيء علا شيئا فهو سماء له وقال علي بن عيسى قيل إن السحاب بخارات تصعد من الأرض وذلك جائز لا يقطع به ولا مانع من صحته من دليل عقل ولا سمع والسماء السقف قال سبحانه وجعلنا السماء سقفا محفوظا فالسماء المعروفة سقف الأرض وأصله من السمو وهو العلو فالسماء الطبقة العالية على الطبقة السافلة والأرض الطبقة السافلة ويقال أرض البيت وأرض الغرفة فهو سماء لما تحته من الطبقة السافلة وأرض لما فوقه إلا أنه صار ذلك الاسم بمنزلة الصفة الغالبة على السماء المعروفة وهذا الاسم كالعلم على الأرض المعروفة والبحر هو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر والمنفعة هي اللذة والسرور أو ما أدى إليهما أو إلى واحد منهما والنفع والخير والحظ نظائر وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أدت إلى لذات والإحياء فعل الحياة وحياة الأرض عمارتها بالنبات وموتها خرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات والبث التفريق ولك شيء بثثته فقد فرقته وسمي الغم بثا لتقسم القلب به والدابة من الدبيب وكل شيء خلقه الله مما يدب فهو دابة وصار بالعرف اسما لما يركب والتصريف التقليب وصرف الدهر تقلبه وجمعه صروف والسحاب مشتق من السحب وهو جرك الشيء على وجه الأرض كما تسحب المرأة ذيلها وكل منجر منسحب وسمي سحابا لانجراره في السماء والتسخير والتذليل والتمهيد نظائر يقال سخر الله لفلان كذا إذا سهله له وسخرت الرجل إذا كلفته عملا بلا أجرة وهي السخرة وسخر منه إذا استهزأ به والرياح أربع الشمال والجنوب والصبا والدبور فالشمال عن يمين القبلة والجنوب عن يسارها والصبا والدبور متقابلان فالصبا من قبل المشرق والدبور من قبل المغرب وأنشد أبو زيد:

إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني

نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر فإذا جاءت الريح بين الصبا والشمال فهي النكباء والتي بين الجنوب والصبا الجربياء والصبا هي القبول والجنوب يسمى الأزيب ويسمى النعامي والشمال يسمى محوة لا تنصرف ويسمى مسعا ونسعا ويسمى الجنوب لاقحا والشمال حائلا قال أبو داود يصف سحابا:

لقحن ضحيا للقح الجنوب

فأصبحن ينتجن ماء الحيا

قوله للقح الجنوب أي لإلقاح الجنوب وقال زهير:

جرت سنحا فقلت لها مروعا

نوى مشمولة فمتى اللقاء مشمولة أي مكروهة لأنهم يكرهون الشمال لبردها وذهابها بالغيم فصار كل مكروه

عندهم مشمولا.

المعنى:

لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له قالوا ما الدلالة على ذلك فقال الله سبحانه ﴿إن في خلق السموات والأرض﴾ أي في إنشائهما مقدرين على سبيل الاختراع ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة أو اختلافهما في الجنس واللون والطول والقصر ﴿والفلك التي تجري في البحر﴾ أي السفن التي تحمل الأحمال ﴿بما ينفع الناس﴾ خص النفع بالذكر وإن كان فيه نفع وضر لأن المراد هنا عد النعم ولأن الضار غيره إنما يقصد منفعة نفسه والنفع بها يكون بركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب ﴿وما أنزل الله من السماء﴾ أي من نحو السماء عند جميع المفسرين وقيل يريد به السحاب ﴿من ماء﴾ يعني المطر ﴿فأحيا به الأرض بعد موتها﴾ أي فعمر به الأرض بعد خرابها لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت وإذا لم يصبها مطر لم تنبت ولم يتم نباتها فكانت من هذا الوجه كالميت وقيل أراد به إحياء أهل الأرض بإحياء الأقوات وغيرها مما تحيى به نفوسهم ﴿وبث فيها من كل دابة﴾ أي فرق في الأرض من كل حيوان يدب وأراد بذلك خلقها في مواضع متفرقة ﴿وتصريف الرياح﴾ أي تقليبها بأن جعل بعضها صباء وبعضها دبورا وبعضها شمالا وبعضها جنوبا وقيل تصريفها بأن جعل بعضها يأتي بالرحمة وبعضها يأتي بالعذاب عن قتادة وروي أن الريح هاجت على عهد ابن عباس فجعل بعضهم يسب الريح فقال لا تسبوا الريح ولكن قولوا اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ﴿والسحاب المسخر﴾ أي المذلل ﴿بين السماء والأرض﴾ يصرفها كما يشاء من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع ﴿لآيات﴾ أي حججا ودلالات ﴿لقوم يعقلون﴾ قيل أنه عام في العقلاء من استدل منهم ومن لم يستدل وقيل أنه خاص بمن استدل به لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات ولم يستدل بها صار كأنه لا عقل له فيكون مثل قوله إنما أنت منذر من يخشاها وقوله هدى للمتقين وذكر سبحانه الآيات والدلالات ولم يذكر على ما ذا تدل فحذف لدلالة الكلام عليه وقد بين العلماء تفصيل ما تدل عليه فقالوا أما السماوات والأرض فيدل تغير أجزائهما واحتمالهما الزيادة والنقصان وإنهما من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما ثم إن حدوثهما وخلقهما يدل على أن لهما خالقا لا يشبههما ولا يشبهانه لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم ولا عرض إذ جميع ما هو بصفة الأجسام والأعراض محدث ولا بد له من محدث ليس بمحدث لاستحالة التسلسل ويدل كونهما على وجه الإتقان والإحكام والاتساق والانتظام على كون فاعلهما عالما حكيما وأما اختلاف الليل والنهار وجريهما على وتيرة واحدة وأخذ أحدهما من صاحبه الزيادة والنقصان وتعلق ذلك بمجاري الشمس والقمر فيدل على عالم مدبر يدبرهما على هذا الحد لا يسهو ولا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة واقعة على نظام وترتيب لا يدخلها تفاوت ولا اختلال وأما الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس فيدل حصول الماء على ما تراه من الرقة واللطافة التي لولاها لما أمكن جري السفن عليه وتسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه على منعم منهم دبر ذلك لمنافع خلقه ليس من جنس البشر ولا من قبيل الأجسام لأن الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك وأما الماء الذي ينزل من السماء فيدل إنشاؤه وإنزاله قطرة قطرة لا تلتقي أجزاؤه ولا تتألف في الجو فينزل مثل السيل فيخرب البلاد والديار ثم إمساكه في الهواء مع أن من طبع الماء الانحدار إلى وقت نزوله بقدر الحاجة وفي أوقاتها على أن مدبره قادر على ما يشاء من الأمور عالم حكيم خبير وأما إحياء الأرض بعد موتها فيدل بظهور الثمار وأنواع النبات وما يحصل به من أقوات الخلق وأرزاق الحيوانات واختلاف طعومها وألوانها وروائحها واختلاف مضارها ومنافعها في الأغذية والأدوية على كمال قدرته وبدائع حكمته سبحانه من عليم حكيم ما أعظم شأنه وأما بث كل دابة فيها فيدل على أن لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوعة من اللحم والعظم والأعصاب والعروق وغير ذلك من الأعضاء والأجزاء المتضمنة لبدائع الفطرة وغرائب الحكمة الدالة على عظيم قدرته وجسيم نعمته وأما الرياح فيدل تصريفها بتحريكها وتفريقها في الجهات مرة حارة ومرة باردة وتارة لينة وأخرى عاصفة وطورا عقيما وطورا لاقحة على أن مصرفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه إذ لو أجمع الخلق كلهم على أن يجعلوا الصبا دبورا أو الشمال جنوبا لما أمكنهم ذلك وأما السحاب المسخر فيدل على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له ولا نظير لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة ولا دعامة إلا الله سبحانه وتعالى القادر لذاته الذي لا نهاية لمقدوراته فهذه هي الآيات الدالة على أن الله سبحانه صانع غير مصنوع قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء حي لا تلحقه الآفات ولا تغيره الحادثات ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه وأزليته وبما وسمها به من العجز والتسخير على كمال قدرته وبما ضمنها من البدائع على عجائب خلقته وفيها أيضا أوضح دلالة على أنه سبحانه المنان على عباده بفوائد النعم المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم فيعلم بذلك أنه سبحانه الآلة الذي لا يستحق العبادة سواه وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأن ذلك هو الطريق إلى معرفته وفيها البيان لما يجب فيه النظر وإبطال التقليد.