الآيات 164-165
قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿164﴾ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿165﴾
اللغة:
الرب إذا أطلق أفاد المالك بتصريف الشيء بأتم التصريف وإذا أضيف فقيل رب الدار ورب الضيعة فمعناه المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد وأصله التربية وهي تنشئة الشيء حالا بعد حال حتى يصير إلى الكمال والفرق بين الرب والسيد أن السيد المالك لتدبير السواد الأعظم والرب المالك لتدبير الشيء حتى يصير إلى الكمال مع إجرائه على تلك الحال ويقال وزر يزر وزرا ووزر يوزر فهو موزور وأصله من الوزر الذي هو الملجأ فحال الموزور كحال الملتجىء إلى غير ملجأ ومنه الوزير لأن الملك يلتجىء إليه في الأمور وقيل إن أصله الثقل ومنه قوله ووضعنا عنك وزرك وكلاهما محتمل وواحد الخلائف خليفة مثل صحيفة وصحائف وسفينة وسفائن وخلف فلان فلانا يخلفه فهو خليفته إذا جاء بعده.
الإعراب:
في نصب درجات ثلاثة أقوال (أحدها) أن يقع موقع المصدر فكأنه قال رفعة بعد رفعة (والثاني) أنه إلى درجات فحذفت إلى كما حذفته في قولك دخلت البيت وتقديره إلى البيت (والثالث) أن يكون مفعولا من قولك ارتفع درجة ورفعته درجة مثل اكتسى ثوبا وكسوته ثوبا.
المعنى:
لما أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ببيان الإخلاص في الدين عقبه بأمره أن يبين لهم بطلان أفعال المشركين فقال ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار على وجه الإنكار ﴿أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء﴾ وتقديره أيجوز أن أطلب غير الله ربا وأطلب الفوز بعبادته وهو مربوب مثلي وأترك عبادة من خلقني ورباني وهو مالك كل شيء وخالقه ومدبره وليس بمربوب أم هذا قبيح في العقول وهو لازم لكم على عبادتكم الأوثان ﴿ولا تكسب كل نفس إلا عليها﴾ أي لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة أو معصية إلا عليها فعليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها ووجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك لأنه ليس بعذر لي في اكتساب الإثم اكتساب غيري له ﴿و﴾ لأنه ﴿لا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا يحمل أحد ذنب غيره ومعناه ولا يجازى أحد بذنب غيره وقال الزجاج معناه لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم أخرى وقيل إن الكفار قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اتبعنا وعلينا وزرك أن كان خطأ فأنزل الله هذا وفيه دلالة على فساد قول المجبرة إن الله تعالى يعذب الطفل بكفر أبيه ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم﴾ أي م آلكم ومصيركم ﴿فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ أي يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه فيظهر المحسن من المسيء ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض ومعناه أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله كلما مضى قرن خلفهم قرن يجري ذلك على انتظام واتساق حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلفه عصر وهذا لا يكون إلا من عالم مدبر عن الحسن والسدي وجماعة وقيل المراد بذلك أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) جعلهم الله تعالى خلفاء لسائر الأمم ونصرهم على سائر الخلق ﴿ورفع بعضكم فوق بعض درجات﴾ في الرزق عن السدي وقيل في الصورة والعقل والعمر والمال والقوة وهذا أولى لأن الأول يدخل فيه ووجه الحكمة في ذلك مع أنه سبحانه خلقهم ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم ما فيه من الألطاف الداعية إلى الواجبات والصارفة عن المقبحات لأن كل من كان غنيا في ماله شريفا في نسبه ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكه رغبة في امتثاله ومن كان على ضد ذلك ربما دعاه إلى طاعته رهبة من أمثاله ورجاء أن ينقله عن هذه الحال إلى حال جليلة يغتبط عليها ﴿ليبلوكم فيما آتاكم﴾ أي ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل وانتفاء من الظلم ومعناه لينظر الغني إلى الفقير فيشكر وينظر الفقير إلى الغني فيصبر ويفكر العاقل في الأدلة ويعمل بما يعلم ﴿أن ربك سريع العقاب﴾ إنما وصف نفسه بذلك مع أن عقابه في الآخرة من حيث إن كل ما هو آت قريب فهو إذا سريع وقيل معناه أنه سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة وقيل معناه أنه قادر على تعجيل العقاب فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا ﴿وإنه لغفور رحيم﴾ قابل سبحانه بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان وقيل أنه سبحانه افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما وختمها بالمغفرة والرحمة ليحمد على ذلك.