الآيات 61-70

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴿61﴾ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿62﴾ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ﴿63﴾ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ﴿64﴾ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ ﴿65﴾ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴿66﴾ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿67﴾ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴿68﴾ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴿69﴾ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴿70﴾

اللغة:

النكس هو أن يجعل أسفل الشيء أعلاه ومنه النكس في العلة وهو أن يرجع إلى أول حاله ومنه النكس وهو السهم فوقه فيجعل أعلاه أسفله ويقال للمائق أيضا نكس تشبيها بذلك.

الإعراب:

﴿على أعين الناس﴾ في موضع الحال أي مرئيا مشهودا ﴿بل فعله كبيرهم هذا﴾ من وقف على فعله ففاعله مضمر وتقديره فعله من فعله و﴿كبيرهم﴾ مبتدأ وهذا خبره ومن لم يقف على فعله فكبيرهم فاعله وهذا يكون صفة لكبيرهم أو بدلا عنه وجواب الشرط الذي هو قوله ﴿إن كانوا ينطقون﴾ محذوف يدل عليه قوله ﴿بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم﴾ على الوجه الثاني ويقتضي أن يكون للشرط جزآن على هذا والجزاء الثاني معطوف على الأول التقدير إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا فسألوهم والمعنى إن لم يقدروا على النطق لم يقدروا على الفعل.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه ما جرى بين إبراهيم وقومه في أمر الأصنام بقوله ﴿قالوا﴾ يعني قوم إبراهيم ﴿فأتوا به﴾ أي فجيئوا به ﴿على أعين الناس﴾ أي بحيث يراه الناس ويكون بمشهد منهم ﴿لعلهم يشهدون﴾ عليه بما قاله فيكون ذلك حجة عليه بما فعل عن الحسن وقتادة والسدي قالوا كرهوا أن يأخذوه بغير بينة وقيل معناه لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به أي يحضرونه عن ابن إسحاق والضحاك ﴿قالوا أأنت فعلت هذا بإلهتنا يا إبراهيم﴾ المعنى فلما جاءوا به قالوا له هذا القول مقررين له على ذلك فأجابهم إبراهيم (عليه السلام) بأن ﴿قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ اختلفوا في معناه وتقديره على وجوه (أحدها) أنه مقيد بقوله ﴿إن كانوا ينطقون﴾ والتقدير فقد فعله كبيرهم إن نطقوا فسألوهم فقد علق الكلام بشرط لا يوجد فلا يكون كذبا ويكون كقول القائل فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء (وثانيها) إنه خرج مخرج الخبر وليس بخبر إنما هو إلزام يدل عليه الحال فكأنه قال ما ينكرون أن يكون فعله كبيرهم هذا والإلزام يأتي تارة بلفظ السؤال وتارة بلفظ الأمر وتارة بلفظ الخبر وربما يكون أحد هذه الأمور أبلغ فيه ووجه الإلزام إن هذه الأصنام إن كانت آلهة كما تزعمون فإنما فعل ذلك بهم كبيرهم لأن غير الإله لا يقدر أن يكسر الآلهة (وثالثها) إن تقديره فعله من فعله على ما تقدم ذكره وهو قول الكسائي وأما ما ذكر فيه أنه أراد به الخبر عن الكبير وقال أنه غضب من أن يعبد معه الصغار فكسرهن وما روي في ذلك من أن إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات قوله إني سقيم وقوله ﴿بل فعله كبيرهم﴾ وقوله في سارة لما أراد الجبار أخذها وكانت زوجته أنها أختي فمما لا يعول عليه فقد دلت الأدلة العقلية التي لا تحتمل التأويل على أن الأنبياء لا يجوز عليهم الكذب وإن لم يقصدوا به غرورا ولا ضررا كما لا يجوز عليهم التعمية في الأخبار ولا التقية لأن ذلك يؤدي إلى التشكك في أخبارهم وكلام إبراهيم (عليه السلام) يجوز أن يكون من المعاريض فقد أبيح ذلك عند الضرورة وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل وقد قيل في تفسير قوله إني سقيم إن معناه أني سأسقم لأنه لما نظر إلى بعض علم النجوم وقت نوبة حمى كانت تأتيه فقال إني سأسقم وقيل معناه إني سقيم عندكم فيما أدعوكم إليه وسنذكر الكلام فيه في موضعه وأما قوله في سارة أنها أختي فإنما أراد في الدين قال سبحانه إنما المؤمنون إخوة وقد دل الدليل العقلي على أن الكذب قبيح لكونه كذبا فلا يحسن على وجه من الوجوه ﴿فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون﴾ معناه فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر على الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلا كما قال وقيل معناه فرجعوا إلى عقولهم وتدبروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم فيما قاله وحاروا عن جوابه فأنطقهم الله بالحق فقالوا إنكم أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤاله وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها ﴿ثم نكسوا على رءوسهم﴾ إذ تحيروا وعلموا أنها لا تنطق ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا ﴿لقد علمت﴾ يا إبراهيم ﴿ما هؤلاء ينطقون﴾ فكيف نسألهم فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة ﴿قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم﴾ أي أفتوجهون عبادتكم إلى الأصنام التي لا تنفعكم شيئا إن عبدتموها ولا تضركم إن تركتموها لأنها لو قدرت على نفعكم وضركم لدفعت عن أنفسها من دون الله سبحانه الذي يقدر على ضرركم ونفعكم على أنه ليس كل من قدر على الضر والنفع استحق العبادة وإنما يستحقها من قدر على أصول النعم التي هي الحياة والشهوة والقدرة وكمال العقل وقدر على الثواب والعقاب ثم قال إبراهيم (عليه السلام) مهجنا لأفعالهم مستقذرا لها ﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله﴾ قال الزجاج معنى أف لكم تبا لأعمالكم وأفعالكم وقد ذكرنا اختلاف القراء فيه وما قيل في تفسيره في سورة بني إسرائيل ﴿أفلا تعقلون﴾ أي أفلا تتفكرون بعقولكم في أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة ﴿قالوا حرقوه﴾ والمعنى فلما سمعوا منه هذا القول قال بعضهم لبعض حرقوه بالنار ﴿وانصروا آلهتكم﴾ أي وادفعوا عنها وعظموها ﴿إن كنتم فاعلين﴾ أي إن كنتم ناصريها والمعنى فلا تنصرونها إلا بتحريقه بالنار قال ابن عمر ومجاهد إن الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار رجل من أكراد فارس فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وقال وهب إنما قاله نمرود وفي الكلام حذف قال السدي فجمعوا الحطب حتى أن الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيشترى به حطب وحتى أن المرأة لتغزل فتشتري به حطبا حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق وهو أول منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثم رموه ﴿قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم﴾ معناه فلما جمعوا الحطب وألقوه في النار قلنا للنار ذلك وهذا مثل فإن النار جماد لا يصح خطابه والمراد أنا جعلنا النار بردا عليه وسلامة لا يصيبه من أذاها شيء كما قال سبحانه وتعالى كونوا قردة خاسئين والمعنى أنه صيرهم كذلك لا أنه خاطبهم وأمرهم بذلك وقيل يجوز أن يتكلم الله سبحانه بذلك ويكون ذلك صلاحا للملائكة ولطفا لهم وذكر في كون النار بردا على إبراهيم وجوه (أحدها) إن الله سبحانه أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة التي فيها فلم تؤذه (وثانيها) إن الله سبحانه حال بينها وبينه فلم تصل إليه (و ثالثها) إن الإحراق إنما يحصل بالاعتمادات التي في النار صعدا فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الاعتمادات وعلى الجملة فقد علمنا إن الله سبحانه منع النار من إحراقه وهو أعلم بتفاصيله قال أبو العالية لو لم يقل سبحانه ﴿وسلاما﴾ لكانت تؤذيه من شدة بردها ولكان بردها أشد عليه من حرها فصارت سلاما عليه ولو لم يقل ﴿على إبراهيم﴾ لكان بردها باقيا على الأبد وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لما أجلس إبراهيم في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال السلام عليك يا إبراهيم ورحمة الله وبركاته ألك حاجة فقال أما إليك فلا فلما طرحوه دعا الله فقال يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فحسرت النار عنه وأنه لمحتب ومعه جبرائيل (عليه السلام) وهما يتحدثان في روضة خضراء وروى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم (عليه السلام) في النار نزل إليه جبرائيل (عليه السلام) بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه تمام الخبر وقال كعب ما أحرقت النار من إبراهيم (عليه السلام) غير وثاقه وقيل إن إبراهيم (عليه السلام) ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة ﴿وأرادوا به كيدا﴾ معناه إن الكفار أرادوا بإبراهيم (عليه السلام) كيدا أي شرا وتدبيرا في إهلاكه ﴿فجعلناهم الأخسرين﴾ قال ابن عباس هو أن سلط الله على نمرود وخيله البعوض حتى أخذت لحومهم وشربت دماءهم ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته والمعنى أنهم كادوه أرادوا أن يكيدوه بسوء فانقلب عليهم ذلك.