الآيات 133-135
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴿133﴾ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴿134﴾ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿135﴾
القراءة:
قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم على الجمع والباقون ﴿مكانتكم﴾ على التوحيد وقرأ حمزة والكسائي من يكون بالياء والباقون بالتاء.
الحجة:
وجه قراءة ﴿مكانتكم﴾ على التوحيد أنه مصدر والمصادر في أكثر الأمور مفردة ووجه الجمع أنه قد يجمع المصدر كقولهم الحلوم والأحلام قال:
فأما إذا جلسوا في الندي
فأحلام عاد وأيد هضم
ومن قرأ من يكون بالياء فلأن العاقبة مصدر كالعافية وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فهو كقوله ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ ومن ذكر فكقوله وأخذ الذين ظلموا الصيحة وكلا الأمرين جائز.
اللغة:
الإنشاء الابتداء أنشأ الله الخلق إذا خلقهم وابتدأهم ومنه قولهم أنشأ فلان قصيدة والنشأ الأحداث من الأولاد قال نصيب:
ولو لا أن يقال صبا نصيب
لقلت بنفسي النشأ الصغار وتوعدون من الإيعاد ويحتمل أن يكون من الوعد والوعد في الخير والإيعاد في الشر وقال أبو زيد المكانة المنزلة يقال رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء وقد مكن مكانة.
الإعراب:
الكاف في قوله ﴿كما أنشأكم﴾ في موضع نصب أي مثل ما أنشأكم ومن في قوله ﴿ويستخلف من بعدكم﴾ للبدل كقولهم أعطيتك من دينارك ثوبا أي مكان دينارك وبدله ومن في قوله ﴿من ذرية قوم آخرين﴾ لابتداء الغاية وما في قوله ﴿إن ما توعدون﴾ بمعنى الذي ومن في قوله ﴿من تكون له عاقبة الدار﴾ في موضع رفع بالابتداء وخبره ﴿تكون له عاقبة الدار﴾ وتقديره أينا تكون له عاقبة الدار ويكون تعليقا ويحتمل أن يكون موضعه نصبا بتعلمون ويكون في معنى الذي.
المعنى:
لما أمر سبحانه بطاعته وحث عليها ورغب فيها بين أنه لم يأمر بها لحاجة لأنه يتعالى عن النفع والضر فقال ﴿وربك﴾ أي خالقك وسيدك ﴿الغني﴾ عن أعمال عباده لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم لأن الغني عن الشيء هو الذي يكون وجود الشيء وعدمه وصحته وفساده عنده بمنزلة ﴿ذو الرحمة﴾ أي صاحب النعمة على عباده بين سبحانه أنه مع غناه عن عباده ينعم عليهم وأن إنعامه وإن كثر لا ينقص من ملكه ولا من غناه ثم أخبر سبحانه عن قدرته فقال ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي يهلككم وتقديره يذهبكم بالإهلاك ﴿ويستخلف من بعدكم ما يشاء﴾ أي وينشىء بعد هلاككم خلقا غيركم يكون خلفا لكم ﴿كما أنشأكم﴾ في الأول ﴿من ذرية قوم آخرين﴾ تقدموكم وهذا خطاب لمن سبق ذكره من الجن والإنس ويحتمل أن يكون معناه ويستخلف جنسا آخر أي كما قدر على إخراج الجن من الجن والإنس من الإنس فهو قادر على أن يخرج قوما آخر لا من الجن ولا من الإنس وفي هذه الآية دلالة على أن خلاف المعلوم يجوز أن يكون مقدورا لأنه سبحانه بين أنه قادر على أن ينشىء خلقا خلاف الجن والإنس ولم يفعل ذلك ﴿إن ما توعدون﴾ من القيامة والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب وتفاوت أهل الجنة في الدرجات وتفاوت أهل النار في الدركات ﴿لآت﴾ لا محالة ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ بفائتين ويقال بسابقين ويقال بخارجين من ملكه وقدرته والإعجاز أن يأتي الإنسان بشيء يعجز خصمه عنه ويقصر دونه فيكون قد جعله عاجزا عنه فعلى هذا يكون المعنى لستم بمعجزين الله سبحانه عن الإتيان بالبعث والعقاب ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿يا قوم اعملوا على مكانتكم﴾ أي على قدر منزلتكم وتمكنكم من الدنيا ومعناه أثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر وهذا تهديد ووعيد بصيغة الأمر وقيل على مكانتكم على طريقتكم وقيل على حالتكم عن الجبائي أي أقيموا على حالتكم التي أنتم عليها فإني مجازيكم ﴿إني عامل﴾ إخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي عامل بما أمرني الله تعالى به وقيل إخبار عن الله تعالى أي عامل ما وعدتكم به من البعث والجزاء عن أبي مسلم والأول الصحيح ﴿فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار﴾ أي فستعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في دار السلام عند الله تعالى وقيل المراد عاقبة دار الدنيا في النصر عليكم ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ أي لا يظفر الظالمون بمطلوبهم وإنما لم يقل الكافرون وإن كان الكلام في ذكرهم لأنه سبحانه قال في موضع آخر والكافرون هم الظالمون وقال إن الشرك لظلم عظيم.