الآيات 21-30

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴿21﴾ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿22﴾ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴿23﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ﴿24﴾ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴿25﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴿26﴾ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴿28﴾ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿29﴾ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿30﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر ﴿إلا نوحي﴾ بالنون والباقون يوحى وقرأ ابن كثير ألم ير بغير واو وكذلك هو في مصاحف مكة والباقون ﴿أولم يروا﴾ بالواو وفي الشواذ قراءة الحسن وابن محيصن الحق بالرفع ﴿فهم معرضون﴾ وقراءة الحسن أيضا وعيسى الثقفي رتقا بفتح التاء.

الحجة:

وجه النون أنه أشبه بما تقدم من قوله ﴿وما أرسلنا﴾ والياء في المعنى كالنون والوجه في قراءة الحسن الحق بالرفع الاستئناف فإن الوقف في هذه القراءة على قوله ﴿لا يعلمون﴾ والتقدير هذا الحق أو هو الحق فيحذف المبتدأ ويوقف على الحق ثم يستأنف فيقال ﴿فهم معرضون﴾ لأن أكثرهم لا يعلمون والوجه في قوله رتقا بفتح التاء أنه قد كثر مجيء المصدر على فعل واسم المفعول منه على فعل مفتوح العين وذلك كالنفض والنفض والطرد والطرد فالرتق على هذا يكون للشيء المرتوق كما أن النفض المنفوض والهدم المهدوم فقراءة الجماعة ﴿رتقا﴾ بسكون التاء كأنه مما وضع من المصادر موضع اسم المفعول كالصيد بمعنى المصيد والخلق بمعنى المخلوق.

الإعراب:

﴿أم اتخذوا﴾ أم هذه هي المنقطعة وليست المعادلة لهمزة الاستفهام في مثل قولك أزيد عندك أم عمرو وقوله ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ إلا هذه صفة لآلهة وتقديره غير الله عما يفعل ما هذه الأجود أن تكون مصدرية ويحتمل أن تكون اسما.

المعنى:

ثم عاد سبحانه إلى توبيخ المشركين فقال ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض﴾ هذا استفهام معناه الجحد أي لم يتخذوا آلهة من الأرض ﴿هم ينشرون﴾ أي يحيون الأموات عن مجاهد يقال أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا وهو من النشر بعد الطي لأن المحيا كأنه كان مطويا بالقبض عن الإدراك فأنشر بالحياة والمعنى في ذلك أن هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على الإحياء الذي من قدر عليه قدر على أن ينعم بالنعم التي يستحق بها العبادة فكيف يستحقون العبادة قال الزجاج ومن قرأ ينشرون بفتح الياء فمعناه لا يموتون أبدا ويبقون أحياء أي لا يكون ذلك وأقول قد يجوز أن يكون ينشرون وينشرون بمعنى يقال نشر الله الميت بمعنى أنشر ثم ذكر سبحانه الدلالة على توحيده وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه فقال ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ ومعناه لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لفسدتا وما استقامتا وفسد من فيهما ولم ينتظم أمرهم وهذا هو دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلمون مسألة التوحيد وتقرير ذلك أنه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين والقدم من أخص الصفات فالاشتراك فيه يوجب التماثل فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيين ومن حق كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريدا لضد ما يريده الآخر من إماتة وإحياء أو تحريك وتسكين أو إفقار وإغناء ونحو ذلك فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو إما أن يحصل مرادهما وذلك محال وإما أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين وإما أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلا واحدا ولو قيل إنهما لا يتمانعان لأن ما يريده أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه والجواب أن كلامنا في صحة التمانع لا في وقوع التمانع وصحة التمانع يكفي في الدلالة لأنه يدل على أنه لا بد من أن يكون أحدهما متناهي المقدور فلا يجوز أن يكون إلها ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون معه إله فقال ﴿سبحان الله رب العرش عما يصفون﴾ وإنما خص العرش لأنه أعظم المخلوقات ومن قدر على أعظم المخلوقات كان قادرا على ما دونه ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ معناه أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولا يقال للحكيم لم فعلت الصواب وهم يسألون لأنهم يفعلون الحق والباطل وقيل معناه أنه لا يسأل عن ادعاء الربوبية وهم مسئولون إذا ادعوها ويدل على هذا التأويل النظم والسياق وقيل معناه لا يحاسب على أفعاله وهم يحاسبون على أفعالهم وقيل معناه أنه لا يسأله الملائكة والمسيح عن فعله وهو يسألهم ويجازيهم فلو كانوا آلهة لم يسألوا عن أفعالهم ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة﴾ وهذا استفهام إنكار وتوبيخ أيضا ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ أي قل لهم يا محمد هاتوا حجتكم على صحة ما فعلتموه لأنهم لا يقدرون على ذلك أبدا وفي هذا دلالة على فساد التقليد لأنه طالبهم بالحجة على صحة قولهم والبرهان هو الدليل المؤدي إلى العلم ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ أي وقل لهم يا محمد هذا القرآن ذكر من معي بما يلزمهم من الأحكام وذكر من قبلي من الأمم ممن نجا بالإيمان أو هلك بالكفر عن قتادة وقيل هذا ذكر من معي بالحق في إخلاص الإلهية والتوحيد في القرآن وعلى هذا ذكر من قبلي في التوراة والإنجيل عن الجبائي.

قال لأن القرآن ذكر أتاه الله ومن معه والتوراة والإنجيل ذكر تلك الأمم وقال أبو عبد الله (عليه السلام) يعني بذكر من معي من معه وما هو كائن وبذكر من قبلي ما قد كان وقيل إن معناه في القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وذكر ما أنزل الله من الكتب قبلي فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به وقال الزجاج قل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أتى أمته بأن لهم إلها غير الله فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله ويدل على صحة هذا قوله فيما بعد ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ فلما توجهت الحجة عليهم ذمهم سبحانه على جهلهم بمواضع الحق فقال ﴿بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون﴾ عن التأمل والتفكر واختص الأكثر منهم لأن فيهم من آمن ﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ يا محمد ﴿من رسول﴾ أي رسولا ومن مزيدة ﴿إلا نوحي إليه﴾ نحن أو يوحى إليه أي يوحي الله إليه ب ﴿أنه لا إله﴾ أي لا معبود على الحقيقة ﴿إلا أنا فاعبدون﴾ أي فوجهوا العبادة إلي دون غيري ﴿و قالوا اتخذ الرحمن ولدا﴾ يعني من الملائكة ﴿سبحانه﴾ نزه نفسه عن ذلك لأن اتخاذ الولد لا يخلو أما أن يكون على سبيل التوالد أو على سبيل التبني وكلاهما لا يجوز عليه لأن الأول يقتضي أن يكون من قبيل الأجسام والثاني وهو التبني يكون بأن يقيم غير ولده مقام ولده وإذا كان حقيقة الولد مستحيلا منه فالمشبه به كذلك وليس ذلك كالخلة لأنه من الاختصاص وحقيقته جائزة عليه ﴿بل عباد مكرمون﴾ أي ليسوا أولاد الله كما يزعمون بل هم عباد مكرمون أكرمهم الله واصطفاهم ﴿لا يسبقونه بالقول﴾ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم فكل أقوالهم طاعة لربهم وناهيك بذلك جلالة قدرهم ﴿وهم بأمره يعملون﴾ ومن كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولده ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ أي ما قدموا من أعمالهم وما أخروا منها يعني ما عملوا وما هم عاملون ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الله دينه وقال مجاهد إلا لمن رضي الله عنه وقيل إنهم أهل شهادة أن لا إله إلا الله عن ابن عباس وقيل هم المؤمنون المستحقون للثواب وحقيقته أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع فيه فيكون في معنى قوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴿وهم من خشيته﴾ أي من خشيتهم منه فأضيف المصدر إلى المفعول ﴿مشفقون﴾ خائفون وجلون من التقصير في عبادته ﴿ومن يقل منهم إني إله من دونه﴾ أي من يقل من هؤلاء الملائكة إني إله تحق لي العبادة من دون الله ﴿فذلك﴾ أي فذلك القائل ﴿نجزيه جهنم﴾ يعني إن حالهم مثل حال سائر العبيد في استحقاق الوعيد وقيل إنه عنى به إبليس لأنه الذي دعا الناس إلى عبادته عن ابن جريج وقتادة وقيل إن هذا لا يصح لأن الله سبحانه علق الوعيد بالشرط ولأن إبليس ليس من الملائكة عند الأكثرين ﴿كذلك نجزي الظالمين﴾ يعني المشركين الذين يصفون الله بما لا يليق به وفي هذه الآية دلالة على أن الملائكة ليسوا مطبوعين على الطاعات على ما قاله بعضهم وأنهم مكلفون ﴿أولم ير الذين كفروا﴾ استفهام يراد به التقريع والمعنى أولم يعلموا أنه سبحانه الذي يفعل هذه الأشياء ولا يقدر عليها غيره فهو الإله المستحق للعبادة دون غيره ﴿أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما﴾ تقديره كانتا ذواتي رتق فجعلناهما ذواتي فتق والمعنى كانتا ملتزقتين منسدتين ففصلنا بينهما بالهواء عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطاء وقتادة وقيل كانت السماوات مرتتقة مطبقة ففتقناها سبع سماوات وكانت الأرض كذلك ففتقناها سبع أرضين عن مجاهد والسدي وقيل كانت السماء رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات عن عكرمة وعطية وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ أي وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء حي وقيل وخلقنا من النطفة كل مخلوق حي عن أبي العالية والأول أصح وروى العياشي بإسناده عن الحسن بن علوان قال سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن طعم الماء فقال له سل تفقها ولا تسأل تعنتا طعم الماء طعم الحياة قال الله سبحانه ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ وقيل معناه وجعلنا من الماء حياة كل ذي روح ونماء كل نام فيدخل فيه الحيوان والنبات والأشجار عن أبي مسلم ﴿أفلا يؤمنون﴾ أي أ فلا يصدقون بالقرآن وبما يشاهدون من الدليل والبرهان.

النظم:

وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها أنه سبحانه قال فاسألوا أهل الذكر هل أرسلنا قبلك إلا رجالا وهل اتخذوا آلهة من الأرض أي من الحجر والمدر والخشب فإن كله من الأرض عن أبي مسلم وقيل إنه يتصل بقوله ﴿لوأردنا أن نتخذ لهوا﴾ والمعنى أنهم أضافوا إليه الولد وأضافوا إليه الشريك ووجه اتصال قوله ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ بما قبله أنه لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل وقيل إنه يتصل بقوله اقترب للناس حسابهم والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به وهل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر عن أبي مسلم ووجه اتصال قوله ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ بما قبله أن ما قدمنا ذكره من التوحيد والعدل مذكور في القرآن وفي الكتب السالفة.