الآيـة 130

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿130﴾

اللغة:

الرغبة المحبة لما فيه للنفس منفعة ورغبت فيه ضد رغبت عنه والرغبة والمحبة والإرادة نظائر ونقيض الرغبة الرهبة ونقيض المحبة البغضة ونقيض الإرادة الكراهة وتقول رغبت فيه رغبة ورغبا ورغبا ورغبي إذا ملت إليه ورغبت عنه إذا صددت عنه ورجل رغيب نهم شديد الأكل وفرس رغيب الشحوة أي كثير الأخذ بقوائمه من الأرض وموضع رغيب واسع والرغيبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله والاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر والصفاء والنقاء والخلوص نظائر والصفو نقيض الكدر وصفوة كل شيء خالصة وصفي الإنسان أخوه الذي يصافيه المودة وناقة صفي كثيرة اللبن ونخلة صفية كثيرة الحمل والجمع الصفايا واصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة وإنما قلبت التاء طاء لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء والإطباق وهي من مخرج التاء فأتي بحرف وسط بين الحرفين.

الإعراب:

﴿من يرغب﴾ لفظة من للاستفهام ومعناه الجحد فكأنه قال ما يرغب عن ملة إبراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي الذي سفه نفسه فمن الأولى على الاستفهام والثانية بمعنى الذي وإلا حرف الاستثناء ويجوز أن يكون لنقض النفي ومن اسم موصول وسفه نفسه صلته والموصول والصلة في محل النصب على الاستثناء أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب وفي انتصاب نفسه خلاف قال الأخفش معناه سفه نفسه وقال يونس أراها لغة قال الزجاج أراد أن فعل لغة في المبالغة كما أن فعل كذلك ويجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا وقال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه وأوبق نفسه فهذا كله وجه واحد والوجه الثاني أن يكون على التفسير كقوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وهو قول الفراء قال أن العرب توقع سفه على نفسه وهي معرفة وكذلك بطرت معيشتها وأنكر الزجاج هذا الوجه قال إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفته صار مقصودا قصده وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين والوجه الثالث أن يكون على التمييز والإضافة على تقدير الانفصال كما تقول مررت برجل مثله أي مثل له والوجه الرابع أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه كقوله سبحانه ولا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم فحذف حرف الجر من غير ظرف ومثله ولا تعزموا عقدة النكاح أي على عقدة النكاح ومثله قول الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيا

ونبذله إذا نضج القدور

والمعنى نغالي باللحم قال الزجاج وهذا مذهب صحيح والوجه الخامس ما اختاره الزجاج وهو أن سفه بمعنى جهل وهو موافق في المعنى لما قاله السراج في قوله بطرت معيشتها إن البطر مستقل للنعمة غير راض بها فعلى هذا يكون نفسه مفعولا به وأنه في الآخرة في تتعلق بمحذوف فهو منصوب الموضع على الحال وذو الحال الضمير المستكن في قوله ﴿من الصالحين﴾.

النزول:

روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لقد علمنا أن صفة محمد في التوراة فأسلم سلمة وأبي مهاجر أن يسلم فأنزل الله هذه الآية.

المعنى:

لما بين سبحانه قصة إبراهيم وأن ملته ملة محمد عقبه بذكر الحدث على اتباعها فقال: ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾ أي لا يترك دين إبراهيم وشريعته إلا من أهلك نفسه وأوبقها وقيل أضل نفسه عن الحسن وقيل جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه عن الأصم وقيل جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء عن أبي مسلم وقوله ﴿ولقد اصطفيناه في الدنيا﴾ أي اخترناه بالرسالة واجتبيناه ﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ أي من الفائزين عن الزجاج وقيل معناه لمع الصالحين أي مع آبائه الأنبياء في الجنة عن ابن عباس وقيل إنما خص الآخرة بالذكر وإن كان في الدنيا كذلك لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه فيها بما ينبىء عن ذلك وفي قوله سبحانه ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾ دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات في ملة محمد فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة إبراهيم قد سفهوا أنفسهم وهذا معنى قول قتادة والربيع ويدل عليه قوله ملة أبيكم إبراهيم.